(1) بعد غيابٍ - أراه طويلا - عادت أصابعي تكتب من جديد، بعد النجاة من حادث مروري أليم، بدت الأحداث أمامي ضوضائيةَ، زخم وشغب عظيمان يحيطان بفكري. أعلم أن العالم ليس ساكنا، وأن علاقاته جدليةٌ وعميقة بل وصارت الآن مركبة وطاغية. لكني وجدت ظاهرة الجزر هي الظاهرة التي تحكم علاقاتنا السياسية والاجتماعية قبل الطبيعية. نعم موجات رمادية عاتية دمرت زهور الليمون، وكومة القطن معاَ، جمعت الطيور والظلال والعظام. لماذا صار البحر ملاذا للهاربين واللاجئين، بل ومصيرا للمدافعين عن سمكاتٍ مجرد سمكات، فهل أكتب عن ضحايا رأس غارب، أم عن محسن فكري أم عن عملةٍ تعوم وشعبٍ في اليم غارقٍ، أم عن قائد عالمي منتخب يرى العالم بورصة عقارية، أو صالة ألعاب رياضية، هكذا علينا الشعور بالتفاؤل ونحن نستقبل (ترامب) الحاصل على جائزة شجرة الصندوق القومي اليهودي للحياة () وألا ننسى أيضا التونة الذهبية الجائزة التي حصل عليها لأسوأ ممثل مساعد عن فيلم "لا يمكن للأشباح فعلها" . لكن يبدو بفوزه أن الأشباح قادرة على فعلها. ورغم هذا الزخم الشديد الذي وجدته رغم ضجته صامتاَ، ووجدتني أحترم اللحظة التي أعيشها والتي أراها رسالة إذا تحررت من وجهتها الضيقة ومناخها الانفعالي والتصادمي وأنها فجرت موضوعا مهما ورغم بساطته إلا أنه معيار مهم للوعي والنضج وهو الأمن والسلامة، ولا أعني به مطلقا الأمن القومي ولا السياسي ولا حتى الغذائي. وتساءلت هل نحن آمنون؟ قبل أن نكون أحرارا، سؤال مركزي ومهم أعني به الأمن الإنساني والبشري العادي، أين سلامة الفرد قبل مصلحته؟ تذكرت وقتها نفسي وأنا أخرج بكامل أُنوثتي وعقلي مليء بأفكار ثِقال أغلقت باب سيارة أجرة لأستيقظ بعد فترة على جسدٍ ممدد وخريف ممتد، انتهى الحدث بسلام ولَم يبق منه إلا الغبار ورأس يطل من جدار، وتساءلت لماذا نعيش بلا طرق للوقاية ولماذا يختفي لدينا الوعي الوقائي، ولماذا كل هذا العبث؟ (2) بعدما عادت الروح بداخلي من جديد سألت نفسي سؤالا خطيراَ بات ملحاَ وهو: أين ثقافة الأمن والسلامة في واقعنا العربي؟ الأمن الذي يعني الطمأنينة، وإزالة الخطر، وتفعيل نظام الطواريء، يشمل في ذلك الهدوء وضبط النفس، والسيطرة على المخاطر، وتوفير بيئة مهنية ومؤسسية خالية من الحوادث والإصابات. نعم، الأمن الإنساني بل والنفسي أيضا لشعوبٍ رغم أنها ترى الدين غطاء أمنيا إلا إنها تعاني من عدم الشفافية والكرامة والرفاة الإنساني ونقص التمكين والمعرفة والأمان. ماذا لو عرفنا أن لا معلوماتٍ لدينا عن قواعد الأمن والسلامة، بل إن مساراتنا طوال الوقت غير آمنة، وكل ما نسعى إليه مجرد البقاء على قيد الحياة، نعم مهما ارتفعنا فلا أحد منّا ينتصر، وكل ما بداخلنا يرتعش كتيارٍ متناوب، نوع من الغرابة والغربة والسحر لا منطق فيه ولا تخطيط. عندما وجدت ابني معي مصابا في حادث نعم قدري، لكنه سخيفٌ وتافه، جعلني أسأل هل فكرنا يوما كيف نحمي الغد، وما مدى قبول الدولة لمواطنيها وبالأخص جيلها القادم، وحمايتها لهم؟ أردت هنا إعادة النظر في مضامين الأمن الذي لا زال طموحا. فمن قال إننا ننتظر الموت بدمٍ باردٍ على يد داعش، وغيرها. الموت صار بكل الطرق وفي كل الطرق. فأي حقوقٍ نتكلم عنها ونحن بلا أمنٍ نعيش وبخوفٍ فيزيائي نرتعد. من قال إن الأمن القومي العربي يتحقق من خلال حشودٍ عسكريةٍ وأمنية، بل من خلال صناعة مواطن وإنسان لا يلاحقه الفقر والجوع والجهل وسوء الأنظمة التعليمية وضبابية الهوية والحرمان، ويستطيع أن يقاوم ويعيش مرة أخرى بلا عقدٍ، وإذا عادت له الروح مرة مجددا يستطيع أن يخرج من حزنه الأسود ويفتح عينيه للسماء . نعم هذا حقا ما نحتاج إليه في المرحلة المقبلة، نحتاج عودة للروح، أو روح العودة لركن أخضر وروح خضراء تُدرك قيمة الأشياء وتقبل على الحياة بإصرار وتُوْجَد مخرجا، وليكن مخرجا للطوارئ، علينا أن ندرك أن بين أجسادنا الواقعة في المصيدة والنافذة إطار، مجرد إطار، وقبل أن نغير علينا أن نتغير وبصدق وبإمانة بعيدا عما نعيشه من عبثٍ وكذبٍ وليلٍ وأبخرة، وأن يكون الأمن البشري غاية، ويُدرج على أجندة السلام لحماية الشعوب وأجيالها القادمة. نعم نحتاج سكةَ للسلامة نسلكها، وروحا قوية تجعل هاماتنا مرفوعة، بعيدا عن ثقافة الزحام والاستغلال والضيق، والفقر الذي هتك ستر الجميع. وأن نستوعب وبوعي أن المحن ليست ضياعا، الضياع هو اختفاء الروح، التي وصفها توفيق الحكيم في روايته التي مثلت رواية شعب اجتمع على شيء واحد "عودة الروح". إنها مصر التي تمر بفترات انحطاط فيظنها الجميع قد ماتت، وشبعت موتا، فإذا بها تنتفض كالبركان في ثورة عارمة، تدهش خصومها وتدهش العالم . هذه القوة النفسية التي نحتاجها قوة الروح، وروح العودة للقوة التي تجعلنا نردد وبفخر "لو لم أكن مصرياَ، لوددت أن أكون مصريا".
مشاركة :