تسيير الندوات شبيه بقيادة السيارات، حيث ثمة تهيب في البداية ودهشة، وتوق إلى التوقف عند أقرب نقطة، قبل أن يتأصل ولع القيادة في الأنفس، ويتحول إلى إدمان مقيت. العربشرف الدين ماجدولين [نُشرفي2016/11/16، العدد: 10457، ص(15)] حين يتحدث الكاتب عن تجربته، والناقد عن كتابات الآخرين، والباحث عن ظواهر أدبية وفنية، أمام متلقين يكون القصد تواصليا وإبلاغيا، حيث يستعمل كل من المتحدثين مهاراته في التحليل والتأثير واستثارة الرغبة في المتابعة. ولأن الكلام يصعب حصاره أو التنبؤ بمنزلقاته، ابتدع المجتمع الثقافي والأكاديمي مهمة تنسيق الكلام، وتسييره ليسلك السبل السوية، حتى لا تكون فوضى، ويزيغ متكلم عما رسم له من حدود. رئاسة الندوات بهذا المعنى صفة رمزية، تناط غالبا بعارف حازم ذي قدرة على حصار الكلام في حدود المدة الزمنية المتاحة، أو بمتكلم بارع صاحب بديهة لا تغفل عن التقاط الدعابات من نسيج الجد. ولكلا الصنفين مثالبه، فالحازم قد يغتنمها لتصريف الضغائن مع من لا يستلطف، وصاحب البديهة قد يفسد الندوة بتعويم جديتها في بحر دعاباته. ويبدو لي أن تسيير الندوات شبيه بقيادة السيارات، حيث ثمة تهيب في البداية ودهشة، وتوق إلى التوقف عند أقرب نقطة، قبل أن يتأصل ولع القيادة في الأنفس، ويتحول إلى إدمان مقيت، وفي كل مرة ستجد من يقود بحذر وبرغبة الوصول بركابه إلى محطتهم سالمين، وستجد أيضا السائق الأرعن المتوله بذاته، لذا تجد كتابا عديدين يركبهم الفزع في كل مرة يقتسمون المنصة مع قائد لا تدرك جبلّته. أسوق هذا الكلام وفي ذهني تلك الصورة البائسة التي صارت عليها مهمة تسيير الندوات في العالم العربي، حيث باتت تتعلق بالوجاهة العلمية، التي تجعل عددا كبيرا من الباحثين والكتاب لا يرضون بغير ترأس ندوة واحدة، على الأقل، في مؤتمر أو يوم دراسي، وكأن مجرد المساهمة جنبا إلى جنب مع زملائهم إزراء بمنزلتهم، وتمريغ لكرامتهم بين الدهماء… كما تحولت مهمة التنسيق، في جانب ثان، إلى أعطية تمنح للمحظوظين من أصدقاء المشرفين والمنظّمين، فهي لا تقتضي إعداد أوراق ولا مداخلات مكتوبة، ولا إرسال ملخصات ولا هم يحزنون. وصار مألوفا في الكثير من الأحيان، أن تغدو سببا لاشتعال خصومات عبثية حول تحيز المسير في تقسيم الوقت، وطبيعة التقديم، والإشارات غير اللائقة الصادرة عنه، وتنتهي اللقاءات بجراح قد لا تلتئم لسنوات، في مجتمع مريض بالكلام. أذكر في هذا السياق ندوة نقدية ساهمت فيها قبل سنوات سيرها باحث مغربي كان يشغل حينها مهمة رئيس أحد المجالس المنتخبة، وكان لشدة اعتداده بمنصبه لا يطيق تجاوزا لسلطته الرمزية على المنصة، فما كان منه حين تمادى أحد النقاد في تلاوة مداخلته، إلا أن وشوش له أمام الملأ بمزيج من الجد واللعب: “سيدي أنا رئيس فعلي فإما أن تسكت وإما أحضر لك قوات مكافحة الشغب”. كاتب من المغرب شرف الدين ماجدولين :: مقالات أخرى لـ شرف الدين ماجدولين قائد الكلام, 2016/11/16 الرواية رقصة تانغو, 2016/11/09 مروان لدمشقه دوما, 2016/11/02 الكتابة والحياء , 2016/10/26 جائزة للتجاوز, 2016/10/19 أرشيف الكاتب
مشاركة :