«مدينة المعيشة» لفرانك لويد رايت: حلم مثالي لمعماري مدهش

  • 11/17/2016
  • 00:00
  • 36
  • 0
  • 0
news-picture

في عام 1957، دُعي المعماري الأميركي الكبير فرانك لويد رايت، الى بغداد من جانب سلطاتها، وذلك بغية تكليفه بإنشاء مجموعة من المباني الحديثة، من بينها: دار للأوبرا ومركز ثقافي ومتحف وجامعة ومبنى لإدارة البريد. لكن ذلك المشروع الضخم لم يتحقق يومها من دون أن نعرف لماذا، بوضوح. لكن، لا شك أن الأحداث السياسية التي عرفها العراق عام 1958، كانت مسؤولة جزئياً عن ذلك. لكن، أكثر من هذا، لا ريب أن سن لويد رايت المتقدّمة كانت مسؤولة أيضاً. فالرجل سيموت بعد عامين، وكان عام زيارته بغداد قد كتب نصه المعماري الشهير بعنوان «وصيتي»، ما كان إيذاناً بالرحيل. ومع هذا، تمكّن من أن يحقق أكثر من دزينة أخرى من مشاريعه العمرانية خلال العامين الباقيين له قبل الرحيل، كما تمكن – وهذا أهم على المستوى النظري، من نشر كتابه «مدينة المعيشة»، الذي كان موضوعه يتواكب مع مشروع عمراني مفترض لم يتحقق أبداً. وربما كان المعماري الكبير يعرف أنه لن يتحقق، منذ صاغ المشروع، نظرياً، للمرة الأولى، في عام 1932، حيث كان عنوانه يومها «المدينة المختفية». > والحقيقة أن العنوانين يتكاملان، مع فارق ربع القرن بينهما. فلكي تكون المدينة قابلة لأن تكون مدينة «معيشة» (على وزن غرفة المعيشة)، كان لا بد للمدينة الحديثة الماثلة أمامنا في عالم اليوم أن تختفي. وتلكم هي التيمة التي حملها الكتاب في صيغته، القديمة والحديثة، ما يجعلهما معاً واحدة من أكثر نظريات العيش البيئوي، رقياً وحداثة، مع أن أنصار البيئة قلما يلتفتون في أيامنا هذه الى الكتابين. > منذ الصيغة الأولى، يشرح لويد رايت ضرورة اللامركزية التي تقوم لديه في الخروج من المدن الملوثة والمزدحمة، لملاقاة المنظر الطبيعي. فهو، لمعرفته بكم أن بلاده الأميركية غنية بالمساحات الخالية، اقترح مشروعاً فحواه إقامة «مدن من نوع جديد» في تلك المساحات. وعزز نظريته عبر معارض ومحاضرات أقامها في العديد من الولايات الأميركية. ثم نراه في عام 1954 يعيد النظر في الكتاب ويعدّله ليعنونه هذه المرة «حين تبني الديموقراطية»، معرباً دائماً عن قناعته بأن بيئة المدن الموجودة بيئة سيئة، مستبعداً تساؤله القديم: «هل لنا أن نعتبر المدينة انتصاراً طبيعياً لغريزة الخراف الماثلة لدى البشرية؟». وهو للإجابة المتواصلة عن هذا التساؤل، انتقل من الغضب والاحتجاج، في الصيغة النهائية «مدينة المعيشة»، ليرسم هذه المرة، تصويراً وكلاماً، ملامح «المدينة» الجديدة التي ينادي بها: إنها مدينة مفترضة تقام في منطقة ملأى بالتلال الوادعة، والمراعي الفسيحة، مجاورة للبحيرات والأنهار. أما النقل فيتم هنا بواسطة «مراكب ذرية الطاقة» و»تاكسي مروحيات». والمباني هنا لا تلتصق ببعضها البعض، بل تكون موزعة بين المناطق الطبيعية. والطريف هنا، أن لويد رايت قد دمج في مدينته المثالية هذه، العديد من المباني التي كان أنشأها بالفع في مدن متنوعة، مثل معبد «بيت السلام» وبرج برايس وفندق روجرز لاسي، ومجمع بلانيتاريوم، ومرآب كوفمان في البيت الشهير في بتسبرغ والمركز البلدي في هذه المدينة نفسها، وربما بعض الأفكار الأساسية لمشروعه العراقي الذي لم ير النور. كأن هذه المدينة ليست سوى موجز لحياة المعماري العملية الإبداعية. وهي حياة جديرة بأن تزار دائماً على أية حال، مجدداً. > في عام 1923، حين ضربت مدينة طوكيو هزة أرضية كانت واحدة من أعنف الهزات التي طاولتها حتى ذلك الحين، في القرن العشرين، كان فندق «إمبريال» واحداً من المباني القليلة التي لم تمسها الهزة الأرضية بأي سوء. ولا شك أنه كان ثمة، على الأقل، شخص واحد لم يزعجه ذلك. وكان الشخص ذاك أميركياً يعيش في الولايات المتحدة يعود موقفه الى أنه كان هو المهندس الذي صمم الفندق ونفذه، واخترع من أجله مواد بناء وأساليب عمار جديدة. كان ذلك الشخص فرانك لويد رايت. صحيح أنه لم يكن في حاجة الى تلك «المأثرة» حتى يثبت مكانته العالمية، لكنه كان في حاجة إليها، بكل تأكيد، حتى يدعم موقفه في الصراع بين القديم والجديد، في مضمار الهندسة المعمارية. فهو كان سيد المدافعين عن الجديد، بينما كان خصومه «القدامى» و»الكلاسيكيون» أقوياء يشنون عليه، بين الحين والحين، هجمات ضارية، هجمات كان لا ينقصها في بعض الأحيان أن تورده موارد اليأس، على رغم أن سمعته في العالم، خارج وطنه، كانت كبيرة، وكان في ذلك الحين قد بات مؤشراً إلى عالم العمران في طول العالم وعرضه، وفي أوروبا على وجه الخصوص. طبعاً لسنا هنا في حاجة الى القول بأن «مأثرته» اليابانية أعطته انتصاراً ما بعده انتصار، وبات منذ ذلك الحين يعتبر، حتى في وطنه الأميركي، أكبر مجدد عالمي في مضمار الهندسة المعمارية. > ولد رايت عام 1869 في ريتشلاند سنتر بولاية وسكونسين الأميركية، وهو أمضى معظم سنوات طفولته في مزرعة. وفي 1884، دخل جامعة وسكونسين للتخصص في المعمار، لكن هذا التخصص لم يكن موجوداً في تلك الجامعة، وهو ما كانت أوضاعه لتمكنه من الانتساب الى جامعة أخرى، فأمضى سنوات من حياته يدرس الهندسة التقنية، ثم سئم ذلك كله فتوجه الى شيكاغو ليبحث عن عمل، وهناك كان من حسن حظه أنه عثر على عمل لدى واحدة من أكبر شركات البناء، وخلال السنوات السبع الأولى التي أمضاها في الشركة تمكن من أن يظهر مواهبه الاستثنائية في مجال الهندسة والتجديد، ما جعله إثر ذلك ينفرد بمكتب وبعمل خاص به. وسرعان ما بدأ يشتهر بتمرده على أسلوب العمار الفيكتوري وميله الى التجديد المعتمد على الخطوط الأفقية وعلى النوافذ، وعلى تصميم أبنية ترتبط بالبيئة المجاورة في شكل أساسي. وكان من أول إنجازاته المهمة في ذلك الحين، تصميمه منزلاً ريفياً في مجموعة مساكن فردريك روبي في شيكاغو في 1909. > في الوقت الذي كانت إنجازاته تستثير غضب المهندسين الكلاسيكيين في الولايات المتحدة، كانت سمعة رايت تكبر في الخارج، وكان تأثيره في العمران الأوروبي بدأ يتضح، ثم كان نفاد فندق «إمبريال» من زلزال طوكيو، نقطة الذروة في شهرته. مهما يكن، فإن مآسي سنوات العشرين في الولايات المتحدة عادت وخففت من حدة اندفاعه، بخاصة أن ذلك تواكب مع ثاني حريق أصاب مزرعته الشهيرة التي بناها في سبرنغ غرين بولاية وسكونسين، فأنفق كل ما لديه من مال في سبيل إعادة بنائها. > منذ ذلك الحين، صار لويد أحد أكبر العمرانيين في العالم، والأهم من هذا، أنه صار يعتبر الأب الشرعي للحداثة العمرانية في الولايات المتحدة، وراحت مبانيه تنتشر في أكثر من ثلاثين ولاية. وعلى رغم التنوع الهائل في تلك الأعمال، فإن ثمة وحدة أساسية تجمع بينها. وحدة تنطلق من تطوير رايت أساليب بناء جديدة، كان غالباً ما يستخدم فيها مواد جديدة، وأحياناً كتلاً مصنفة سلفاً. وفي هذا المجال، لا يزال تصميمه الكبير لبيت كوفمان، «مسقط الماء» في بيرران بولاية بنسلفانيا (1936)، يعتبر حتى اليوم أبرز وأهم مبنى في العالم أقيم فوق مسقط مائي. أما أبرز أعماله من ناحية الفاعلية والوظائفية، فهو مجمع المباني المعروف باسم «بروداكرز»، ويعتبر حتى اليوم نموذجاً أساسياً لمجمع سكني ريفي. > خلال سنوات حياته الأخيرة، واصل رايت عمله التجديدي وإن بوتيرة أقل حدة، في الوقت نفسه الذي راح يعد التلامذة في مبنيين أقام أولهما في وسكونسين والثاني في ولاية آريزونا. وخلال ذلك كله، كان لديه من الوقت ما يكفي لوضع العديد من الكتب في فن المعمار، أهمها على الإطلاق سيرته الذاتية التي حملت عنوان «وصية» (1957)، إضافة الى كتاب «مدينة المعيشة» (1959). وبهذين الكتابين، تمكّن رايت من نقل معركته التجديدية الى صفوف الرأي العام، من دون أن يتنبه الى أنه قد كسب هذا الرأي العام منذ زمن بعيد. حين رحل رايت عن عالمنا، كان على وشك إنجاز مبنى متحف «غوغنهايم» في نيويورك، كما العديد من المشاريع الأخرى. وهو كان عند موته في التسعين من عمره، لكنه كان لا يزال يتمتع بحيوية استثنائية. alariss@alhayat.com

مشاركة :