يشكل فيلم «الكيت كات» الذي لعب فيه الراحل محمود عبدالعزيز واحداً من أجمل أدواره وربما أجمل دور في السينما المصرية، قفزة نوعية لهذه السينما بصفة خاصة والسينما العربية بصفة عامة، إذ إن المخرج داوود عبد السيد استطاع أن يجمع فيه بين براعة الأداء الفني المتميز، وبين الحبكة الدرامية المتقنة، إضافة إلى الطرح الفكري المتميز والهادف، الذي يقف إلى جانب قوى النور التي تسعى لاكتساح ظلمات الواقع. فهذا الفيلم المستند في حكايته إلى رواية «مالك الحزين» للكاتب المصري المعروف إبراهيم أصلان، قد استطاع تحقيق المعادلة الصعبة المتمثلة في التوفيق بين عالمين مختلفين وإن اقتربت مراميهما وأهدافهما الفنية، عالم الرواية وعالم السينما. ينفتح هذا الفيلم انفتاحاً موسيقياً أولياً، إذ تغمر الحي بأكمله أغنية شعبية تبعث على الانشراح وتفتح سبل الأمل في النفس، آتية من أعماق دكان الشيخ حسني - محمود عبدالعزيز. هذا الشيخ اللعوب الذي لا هم له سوى الانغماس في أحضان السهر والمجون. وتصاحب هذه الأغنية لقطة جد رتيبة يتجسد فيها اثنان من رجال الحرس الليلي وهما يجوبان شوارع الحي وأزقته ويحاولان استكناه خباياه ومعرفة ما يدور في داخله. بعد هذا تنصب الكاميرا على دكان معين وتسبح بأشعتها داخله، لتسمح للرائي بأن يتعرف إلى الشيخ حسني وجماعة من أصحابه وهم يسبحون في عالم لا متناهٍ من الأحلام الوردية، لا يصحبهم إلا العود بنغماته الدافئة ولفائف الدخان المتصاعد بكثافة حاملاً معه رائحة الحشيش. من خلال هذه اللقطات المتتابعة، نلاحظ أن هذا الشيخ الكفيف يكاد يتميز بخاصيتين أساسيتين، أولاهما أنه صاحب مزاج ونكتة، ولاذع في سخريته سواء من نفسه أو من أصحابه، وثانيهما أنه رجل صلب، يكاد العناد يشع في كل حركة من حركات وجهه. واعتماداً على هاتين الخاصيتين سيحاول المخرج داوود عبد السيد أن يقدم لنا عالم هذا الشيخ ويحدد واقع الحي الذي يعيش فيه، هذا الحي الذي يقدم باعتباره نموذجاً واقعياً لكل ما يقع في المجتمعات العربية، بل يمتد إلى غيرها من المجتمعات حتماً. إذ من خلال الاقتراب من هذا العالم، والدخول في متاهاته سنبدأ في التعرف إلى شرائح هذا المجتمع المقدم بكل أحلامها وطموحاتها وبكل هواجسها وخيالاتها، وبكل ما تعيش فيه من مشكلات وصعوبات جسيمة مردها إما إلى الفقر وإما إلى الجهل أو إليهما معاً. وحتى تتضح لنا الرؤية سنتناول دراسة هذا الفيلم من خلال العلاقات القائمة بين شخوصه. هذه العلاقات التي تنبني عليها أحداثه الكبرى الصانعة عالمَه الكلي والخالقة الجوَّ الدرامي المسيطر عليه. هذه الشخوص التي تتعالق في ما بينها تعالقاً متعدد الجوانب، فهناك شخوص يجمع بينها الرابط الدموي، وخير مثال على ذلك أسرة الشيخ حسني، وهناك شخوص أخرى ترتبط في ما بينها على أساس تحقيق المصالح، ولعل من أوضحها العلاقة التي تربط بين هرم، تاجر المخدرات، الذي جسد شخصيته الفنان نجاح الموجي، وبين زبانئه والمتعاملين معه ومن بينهم الشيخ حسني نفسه، الذي باع له البيت والمقهى اللذين كان يمتلكهما. ونظراً إلى أن هذه العلاقات تتشابك في الفيلم وتتعدد مساراتها لتصب في النهاية في اتجاه واحد لا يكاد يخرج عن دائرة الشيخ حسني وابنه يوسف، فإن مقاربتنا لهذا الفيلم ستتركز على هذه الدائرة بالذات باعتبارها تمثل البؤرة الأساسية له. بحثاً عن حرية يرتبط الشيخ بابنه ارتباطاً روحياً كبيراً، فإضافة إلى علاقة الأبوة والبنوة التي توجد بينهما، هما يرتبطان برباط حبهما العميق للغناء المعبر عن آلام النفس الإنسانية على رغم اختلافهما في الطبع اختلافاً عظيماً. فإذا كان الأب يميل إلى المجون والعربدة التي تتمثل في معاقرة النبيذ والارتماء في أحضان النساء من دون وازع أخلاقي أو حتى خوف من الناس وكلامهم المر، فإن الابن يكاد يشكل الصورة النقيض لأبيه، فهو منطوٍ على ذاته، يعيش عالماً داخلياً رهيباً، موزعاً بين عوالم الكتب الخيالية والرغبة الجامحة في الرحيل والسفر إلى أرض الآخر، والعيش فوق أديمها، هذه الأرض التي ترمز بالنسبة له إلى الحرية وتحقيق الآمال. وسيتجلى هذا الاختلاف عبر لقطات الفيلم المتعددة، فهناك اللقطة التي تجمع بينه وبين جارته المطلقة التي تعشقه وتسعى بكل قواها للعيش معه. وحين يتحقق لها هدفها يخذلها هو في اللقاء الأول بينهما. يوسف لا يستطيع أن يحقق لجارته تلك رغبتها، ومرد ذلك يعود، إلى أن هذه المرأة تمثل بالنسبة إليه كائناً لا يمكن احتواؤه. فهي جارته وهي أكثر من ذلك تقيم علاقة طيبة مع جدته، أو أن الأمر يعود فقط لانشغاله الشديد بالتفكير في كيفية تهيئ رحيله من حي «الكيت كات» الذي يعتبره جحيماً لا يطاق العيش فيه. وستكون هذه اللحظات التي يعيشها الابن الآن بصحبة هاته المرأة، من أشد اللحظات قساوة على نفسية الأب إذ لا تكاد أذناه تلتقط كلمات ابنه المريرة التي يعلن فيها للمرأة الولهى عن عجزه، حتى يصرخ الأب من أعماقه لاعناً هذا الابن الذي أفقده رجولته هو الآخر. إضافة إلى هذه اللقطة، هناك لقطة أخرى رائعة يتجسد فيها التكوين الدرامي في أبهى صوره المعبرة، تلك هي اللقطة التي تجمع بين الابن يوسف وأبيه الشيخ حسني، والتي تنتهي بصفعة قوية من الأب لابنه هذا، إذ ما إن يعلم يوسف أن أباه قد باع البيت وأنه قد أنفق كل ما أخذه من بيعه في السهر مع أصدقائه، من دون أن يمنحه هو شيئاً يهيئ له أسباب السفر إلى الخارج، حتى يستشيط غضباً ويتتبع خطى والده بعد أن انتهى من سهره المعهود، محاولاً معرفة مكان وجهته. إلا أن الأب يحس به ويناديه باسمه ويتردد الابن كثيراً ليعلن لأبيه أنه قد علم بكل شيء، وأنه أي الأب قد خذله، ولم يقف بجانبه حين احتاجه، بل في لحظة من لحظات الغضب الأعمى يتسرع الابن فيها ليهاجم أباه بأنه ليس إلا رجل حشيش لا إرادة له. فما يكون من هذا الأخير إلا أن يصفعه. ولتوضيح هذا الجو الدرامي، فإن الكاميرا ستركز في هذه اللقطة بالذات على وجه الأب لنرى – نحن المتلقين – دمعتين تترقرقان بالكاد على خديه، ما يشحن المشهد بالأسى ويجعله أكثر تأثيراً. هذه بعض اللحظات الحرجة التي تجمع بين الشيخ حسني وابنه يوسف. أما عن اللقطات الأخرى التي يسود فيها الوئام والود اللامتناهي، فيمكن توضيحها من خلال اللقطة التي تجسد وقوع الشيخ ورفيقه الكفيف في مياه البحر بعد أن تم الإيقاع بهما من طرف أحد أعوان المالك الجديد الذي رفض الشيخ حسني أن يبيعه الدكان بالسعر الذي قدمه له. هنا، نجد الابن يسعى بكامل قواه لإنقاذ أبيه وصديقه ثم بعد ذلك ينهال على العون الذي أوقع بهما ضرباً ولطماً حتى يشفي منه غليله. إلا أن من أروع اللقطات التي تبين لنا التحام الأب والابن معاً، هي تلك اللقطة الأخيرة المتميزة، التي نجد فيها الابن والأب يركبان معاً دراجة نارية وتنطلق بهما في عرض الشارع الكبير، والزمن ليلاً. ومن لطائف هذه اللقطة أن الأب الأعمى هو الذي تكلف بسياقة هذه الدراجة النارية وبسرعة جنونية لا تتصور، ما يجعله يكاد يلقي بنفسه وبولده تحت عجلات إحدى الشاحنات لولا أن الابن سيستطيع في اللحظات الأخيرة أن يغير اتجاه الدراجة النارية لترمي بهما في البحر. هنا في هذا الحدث الدرامي الرائع الذي ستصبغ عليه الظلمة جواً من الرهبة وكثيراً من عناصر الرومانسية، ينهض الأب بعد أن يخرج هو وابنه من مياه البحر المتلاطمة، ويأخذ عوده ويبدأ في الغناء، فما يكون من الابن إلا أن يغني معه، من أجل الغد المشرق الآتي. تجدر الإشارة إلى أن محمود عبدالعزيز الذي قام بتجسيد شخصية الشيخ حسني قد استطاع أن يتوحد مع هذه الشخصية، ويبدع فيها أيما إبداع. استطاع بقدراته الفنية أن يوهم المتلقي هذا الفيلم، وذلك انطلاقاً من رنة الصوت، ومن حركات العينين والفم خصوصاً، وباقي التعبيرات الجسدية الأخرى، أنه فعلاً رجل أعمى، تخونه الرؤية فترتعد فرائصه، ويستبد به التهور فيخترق الشوارع ممتطياً دراجة نارية غير هياب ولا وجل من عوارض الطريق الممتلئ. أما عن شخصية الابن، فقد جسدها الفنان شريف منير ببراعة فائقة، تمثل ذلك في قدرته على تكييف نفسيته الداخلية عبر المواقف الدرامية التي تتعرض لها هذه الشخصية، ومحاولة التعبير عن دواخلها بكل فنية واقتدار، كما ساعدته على هذا التجسيد الملفت، ملامحه الخارجية التي تجمع في طياتها بين الإيهام بالفتوة وبين الإيهام بالحلم الطفولي في الآن ذاته. أما عن باقي الشخوص الأخرى التي تساهم في خلق أحداث الفيلم، فلعل من أهمها شخصية المرأة المطلقة التي تخلى عنها زوجها بعد أن تمكن من الرحيل إلى الغرب، وأرسل لها من هناك ورقة طلاقها. فهذه الشخصية جسدتها الفنانة عايدة رياض بتفاعل قوي مع خبايا نفسيتها الشديدة التعقيد. وفيها تمثل نموذجاً حياً للشخصيات المركبة التي يصعب تجسيدها، إذ فيها تلتقي عناصر المأساة وتتوحد. ولقد جسدت هذه الشخصية بكل روعة، بل بكثير من الالتحام الروحي معها، الفنانة المقتدرة أمينة رزق، بحيث منحتها حياة حقيقية ومدتها من ذاتها الحقيقية بمزيد من البساطة الممتنعة والتلقائية غير المواتية إلا لذوي المواهب الكبيرة وذواتها من أمثال فنانتنا هاته. على كل، يبقى هذا الفيلم السينمائي الرائع دليلاً ساطعاً على نجاح السينما وهي تتلاحم مع الأدب الروائي، ولكن بخاصة على الإبداع في الأداء الذي ميّز الراحل محمود عبدالعزيز حين عمل تحت إدارة مخرج مبدع.
مشاركة :