العالم، كما الداخل الأميركي، بدأ يأخذ الترامبية على محمل الجد، ويستعد للتموضع وفق الأمر الواقع الجديد في واشنطن. تقارب روسيا فوز ترامب بصفته واقعاً قد يمثّل قطيعة مع تقليد أميركي قديم وسم العلاقات الأميركية الروسية، فيما تتأمل الصين الأمر ضمن سكينة تخلط ما بين الثقة والتوجّس، وتنتفض أوروبا بقلق من خطاب الاستقالة الذي يتسرّب من مواقف ترامب إزاء الالتزامات التاريخية التي جمعت القارتين القديمة والجديدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتنّشد أنظار منابر الإقتصاد إلى المؤشرات خوفاً من انهيار قد يوحي به ما وعده ترامب من عزم على الانسحاب من اتفاقية التجارة العالمية. بكلمة أخرى فإن الولايات المتحدة التي عرفناها شكّلت القاعدة الأساس للنظام السياسي والأمني والاقتصادي العالمي، بحيث أن اختيار نزيل جديد للبيت الأبيض على مدى العقود السبعة الأخيرة كان دائماً حدثاً محلياً يخص كافة دول العالم شأنه في ذلك شأن الأميركيين أنفسهم. وقد يجوز استنتاج البون الشاسع الذي يفصل بين مضمون خطاب باراك أوباما الاجتماعي الوحدوي إبان حملاته الانتخابية وخطاب دونالد ترامب الذي أدى عند انتخابه إلى ظهور تشققات داخلية مقلقة، سارع الرئيس أوباما والحزبين الرئيسين إلى استيعابها والتخفيف من وقعها من خلال المبالغة في تلميع شعارات "أميركا" و"وحدة الشعب الأميركي". لكن تفحصا منصفا قد لا يجد في رؤية ترامب للسياسة الخارجية لبلاده انقلاباً كبيراً في الاستراتيجيات التي اعتمدتها ادارة أوباما طوال الثماني سنوات الأخيرة. وفيما ترتبك أوروبا وتسعى لاستراتيجية عسكرية خاصة بها مستقلة عن المظلة الأميركية، فإن حريّ التذكير أن التفكير بهذه المقاربة قد ترعرع في عهد أوباما الذي لم يقدم رواية مطمئنة حول التزام واشنطن بأمن اوروبا، وسط تململ من سياسات أميركية يُشتبه أنها تستخدم أوروبا في ورشة مناكفة واشنطن لموسكو دون أي ضمانات تحمي دول الاتحاد الأوروبي من مغبة الصدام المحتمل مع الطموحات الروسية. إلا أن الأمر يبدو أكثر وضوحاً في منطقة الشرق الأوسط. فالسياسة الأميركية ثابتة إزاء دعم إسرائيل، ولو أن شكل العلاقة بين باراك اوباما وبنيامين نتنياهو أوحى بغير ذلك، وأن تحفّظ واشنطن حيال برامج الاستيطان لم يوقفها عتب الرئيس الحالي الذي ارتفعت مستويات التمويل الأميركي السنوي لإسرائيل في عهده. وقد يظهر في مواقف ترامب (ونائبه خصوصا) حماساً مفرطاً لصالح إسرائيل، لكن ذلك بدا منسجماً مع السياسة الأميركية التقليدية المتمسكك بـ "أمن إسرائيل"، كونها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط". إلا أن الأمر السوري يشكل ميدان تقاطع دقيق يضع الموقف الأميركي الجديد تحت المجهر في مقاربته للشأن الإيراني والروسي مجتمعاً. ترتكز رؤية ترامب على اعتبار "داعش" خطراً أول يجب التحالف لضربه مع كافة الأطراف بما فيها الأقل سوءاً (وهذا ما تفعله إدارة أوباما تماما في الموصل والرقة). بشار الأسد سيء في عرف الرئيس الجمهوري المنتخب، لكن وجوده ضروري ضمن ورشة الإجهاز على التنظيم الأرهابي. وقد يتساءل أي مراقب للشأن السوري عن الدور الذي لعبه ويلعبه الجيش السوري التابع لدمشق في مكافحة داعش، ناهيك عن اتهامات بالتواطؤ بين الطرفين والمشاركة، كل من موقعه، في ضرب المعارضة المعتدلة. لكن المتابع لليوميات السورية يستنتج أن موقف الرئيس الأميركي المنتخب يقوم بناء على غياب المعلومات وليس بناء على فائضها. يبشّر ترامب بوقف الدعم الأميركي للمعارضة لصالح النظام، فيما تلك المعارضة ما برحت تعتبر ان غياب قرار بإزاحة النظام السوري من قبل واشنطن يقف وراء صمود النظام حتى الآن، وأن ما يحظى به النظام من دعم مباشر عسكري ومالي من قبل روسيا وإيران والميليشيات التابعة لها، لا يقارن بالدعم المزعوم الذي تقدمه واشنطن للمعارضة. بمعنى آخر فإن دونالد ترامب لا يقترح إلا تمددا لموقف إدارة أوباما لجهة الحفاظ على نظام دمشق. في هذا السياق أيضا يندرج الجهد العسكري الروسي في سوريا. فإدارة أوباما هي من أتاحت حصول التدخل العسكري الروسي مباشرة منذ أكثر من عام. انطلقت العمليات الروسية بعد ساعات من لقاء جمع الرئيسين الروسي والأميركي في نيويورك على هامش قمة الأمم المتحدة. فهم العالم أن تواطؤا ما جرى الاتفاق عليه بين واشنطن وموسكو لمواكبة الورشة العسكرية الروسية في سوريا، وأن ظهور الخلافات الاميركية الروسية في مداولات وزيري خارجية البلدين يتعلق بتجاوز روسيا لما كان التواطؤ الثنائي يسمح به، والذي نجح في انقاذ نظام الأسد من سقوط كان الأسد نفسه قد لمّح إلى احتماله. ما يقوله ترامب في موضوع سوريا هو ما رآه أوباما بكلمات وشكل آخر، وبالتالي فإن رجل البيت الأبيض الجديد لا يختلف في المضمون السوري عن رجل البيت الأبيض القديم. يبقى أن ترامب، الذي سيمعن في تجديد وكالة اوباما لبوتين في سوريا، سيصطدم بما يحتاجه سيّد الكرملين من أجوبة تتعلق باوكرانيا والدرع الصاروخي واطلالة الحلف الأطلسي على حدائق موسكو الخلفية وموقع روسيا في إدارة شؤون العالم. عندها قد لا يجد بوتين الردود التي ينتظرها وقد يكتشف ترامب أنه لا يملك إعطاء الزعيم الروسي ما يتمناه. عندها أيضاً سيعتمد ترامب على نظرية كيسينجر حول "الأولويات"، وسيكتشف فوكوياما أن لا "عصر جديد" في مواسم ترامب الداهمة. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :