يصوّب جندي سوري على راية سوداء رفعها تنظيم «داعش» على بعد أمتار منه، قبل أن يُطلق النار ويسقطها أرضاً داخل مدينة دير الزور حيث يخوض الجيش مواجهات مباشرة مع عناصر التنظيم الذين يحاصرون مواقعه منذ أكثر من عامين. في حي الحويقة الذي يتقاسم الجيش و «داعش» السيطرة عليه في شمال مدينة دير الزور (شرق)، يشير «عمر»، الجندي العشريني الذي فضّل استخدام اسم مستعار، بإصبعه إلى مواقع «داعش» الموجودة على بعد أمتار عدة. ويقول «عمر» الذي يرتدي جعبة عسكرية مدججة ويحمل سلاح كلاشنيكوف لمراسل وكالة «فرانس برس»: «نحن لا نستريح، حتى في الليل، عين نائمة وأخرى مفتوحة». ويضيف الجندي الموجود في دير الزور منذ ثلاث سنوات: «نستنفر 24 ساعة في اليوم، كوننا على خط تماس مباشر مع مسلحي داعش»، مضيفاً «حتى أوقات استراحتنا هي استنفار». ومنذ تموز (يوليو) 2014، تمكّن «داعش» من السيطرة على نحو ستين في المئة من مدينة دير الزور، لتصبح منذ مطلع العام 2015 المدينة السورية الوحيدة التي يُحاصر فيها الجيش. ولم تعد امكانية الوصول إلى الجزء الذي يسيطر عليه الجيش متاحة إلا عبر المروحيات العسكرية. ويحتفظ الجيش بسيطرته في شكل رئيسي على الجزء الغربي من المدينة الذي يؤوي نحو مئة ألف شخص، وعلى المطار العسكري المجاور، في حين يقيم نحو خمسين ألف شخص في الأحياء الشرقية تحت سيطرة «داعش». وتتداخل سيطرة الطرفين في بعض الأحياء. وكان عدد سكان المدينة قبل اندلاع النزاع في آذار (مارس) 2011، 300 ألف نسمة. في الحويقة، يشرح أحد الضباط المسؤولين عن الجبهة الأمامية كيف «تجري الاشتباكات على مسافة 15 إلى عشرين متراً» في شكل يومي. ويضيف «يعتمد المسلحون أسلوب التسلل لأنهم لا يملكون القدرة على الهجوم المباشر وجهاً لوجه». ويوضح أن «خطوطنا الدفاعية قوية لكنهم عادة يهاجمون مواقعنا في أيام الغبار الكثيف أو الضباب أو الصقيع، لذلك نزيد الاستنفار والحذر في ظروف مماثلة ولدينا أجهزة رصد ليلية تساعدنا في صد الهجمات». ويقر بتكبد الجيش خسائر خلال أكثر من عامين ونصف العام من دون أن يحدد حصيلتها. ويقول: «خسائرنا ليست كبيرة قياساً بحجم الخسائر التي تكبدوها (داعش)». ووفق «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، قتل نحو 2500 جندي ومقاتل موال للجيش السوري منذ بدء المعارك مقابل نحو ثلاثة آلاف من «داعش» في المدينة. وشاهد مراسل «فرانس برس» على خط التماس في الحويقة خندقاً حفره الجنود يمتد لعشرات الأمتار، محاطاً بسواتر ترابية، إضافة إلى دشم مختلفة مخصصة لعمليات الرصد. وباتت هذه الخنادق الوسيلة الوحيدة للتنقل على خطوط التماس الأولى وللاحتماء من نيران «داعش». ويشرح الضابط: «كل هذه الحفر على اختلاف أنواعها تخفف من صدمة الانفجارات وتقي من خطر القنص، وتؤمن حرية الحركة للجنود المقاتلين». ويضيف: «تساعدنا الخنادق على حفر أنفاق باتجاه مواقع العدو وتفجيرها بهم، وهو ما حصل منذ أيام عندما دمرنا نفقاً حاول انغماسيو داعش التسلل عبره باتجاه مواقعنا». وتظهر جولة في الحي عيّنة من الدمار الكبير الذي لحق بالمدينة خصوصاً على خطوط التماس. أبنية منهارة بالكامل، وأخرى مهدمة في شكل جزئي بفعل الاشتباكات والعربات المفخخة والقصف. وفشل التنظيم منذ العام 2014 في الاستيلاء على المدينة بكاملها، على رغم سيطرته على الجزء الأكبر من محافظة دير الزور الحدودية مع العراق وحقول النفط الرئيسية فيها التي تعد الأغزر إنتاجاً في سورية. وتعد دير الزور ثاني أبرز معقل لـ «داعش» في سورية بعد الرقة (شمال) وهي ثاني أكبر محافظات سوريا من حيث المساحة. ويهدد نجاح «داعش» بإحراز تقدم ميداني حياة أكثر من عشرة آلاف عسكري سوري محاصرين في المدينة، عدا عن المدنيين. ونظراً إلى قرب المواجهات بين الطرفين، يتبع الجنود تكتيكات عسكرية مختلفة. ويوضح ضابط مسؤول عن حماية حي الحويقة أن «طول فترة الاشتباكات أكسب الجنود خبرة، وبات أي مقاتل قادراً على معرفة حجم التفجير ونوع الآلية المستخدمة وكيفية التعامل معها والاحتماء منها (...)، وفي بعض الأحيان المبادرة للهجوم باتجاه مواقع المسلحين». ويشرح جندي يؤدي خدمته العسكرية في دير الزور منذ اندلاع النزاع السوري: «هناك تفاوت في نقاط الاشتباك (...) وكل نقطة لها أسلوبها، نعتمد في القريبة منها على رمي القنابل والهاون وأسلحة مبتكرة، أما البعيدة فنعتمد على قذائف الآر بي جي أو تلك من عيار 57 ملم أو الهاون، بالإضافة الى سلاح المدفعية». ومنذ اندلاع النزاع في منتصف آذار 2011، تعاقبت على السيطرة على المدينة مجموعات من الفصائل المعارضة، ثم «جبهة النصرة» سابقاً، التي بات اسمها «جبهة فتح الشام» بعد فك ارتباطها بتنظيم «القاعدة»، وأخيراً تنظيم «داعش». ويروي الجندي: «قاتلت كل المجموعات، من الجيش الحر وجبهة النصرة وداعش، ولكل فصيل منهم طريقة معينة في القتال». ويضيف «الجيش الحر يعتمد على الهجوم المباشر، فيما تعتمد جبهة النصرة على تفخيخ المباني وتفجيرها، ويتبع داعش أسلوب الصدمة القائم على إرسال المفخخات ومن ثم الهجوم بمقاتلين انتحاريين وغير انتحاريين». ويخلص إلى القول: «يحاول داعش إيهامنا بأنه جاء ليقطع الرؤوس، لكننا نملك إرادة أكبر على المواجهة، وهذا سبب صمودنا».
مشاركة :