لاحظ المؤرخ الاقتصادي غريغوري كلارك، في وصفه لتسارع الأحداث الذي لا هوادة فيه، أنه قبل قرن من الزمان حين كانت الخيول تحل محل الماكينات، لو كان من الممكن التعاقد مع الخيول بسعر محدد، لاحتفظت بميزتها التنافسية حتى يومنا هذا، ومما يدعو للأسف، كما يقول، أن ذلك السعر قد انخفض «بشكل كبير حتى أنه لم يعد يكفي لإطعام الخيول». ويخشى بعض من خبراء الاقتصاد الآن من أن تحل التقنيات محل القوى البشرية في مجال العمل، لتحمل المصير ذاته للبشر، فإذا لم تستطع أسواق العمل توفير المصدر الرئيسي الكافي للدخل، كما يقولون، فإن مزيدا من التحويلات النقدية الإضافية سوف تكون ضرورية جدا. ظلت الضرائب على إعادة التوزيع من الموضوعات الطافية على السطح داخل الولايات المتحدة، وهي بالتالي ذات صفة مشجعة لكثير من المحافظين البارزين الذين يفضلون الآن نظام ضمانات الدخل الأساسية. وكتب مات زولينسكي، أستاذ الفلسفة في جامعة سان دييغو، في صحيفة «كاتو أنباوند» المعنية بشؤون السياسات المحافظة إنه يجب التخلص من نظام الرعاية الاجتماعية الأميركي المعقد و«الأبوي» في صالح نظام جديد من المنح النقدية السنوية الممنوحة لكل مواطن. ومن نواح كثيرة، فإنها تعتبر فكرة جذابة. ولكن مع اعتبار واقع الثقافة السياسية الأميركية، فإن التحويلات النقدية وحدها لا يمكنها حل المشكلة. فإنها قد تنجح، رغم ذلك، إذا ما اقترنت مع مبادرة أخرى، وفرصة العمل متدربا في مبادرة الرئيس المنتخب دونالد ترامب لإعادة بناء البنية التحتية الوطنية المتداعية. ومقترح ضمان الدخل الأساسي الذي أشار إليه السيد زولينسكي هو بالأساس مقترح ضريبة الدخل السلبية الذي أشار إليه في عقد الخمسينات من القرن الماضي ميلتون فريدمان، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1976، حيث يمكن لكل مواطن الحصول على منحة نقدية من الحكومة، بصرف النظر عن الدخل أو الموقف الوظيفي. كما يمكن خضوع مصادر الدخل الأخرى للضرائب كالمعتاد، ولذلك فإن الناس من ذوي الدخل المعتدل إلى المرتفع سوف يكونون من دافعي الضرائب من دون تغيير. ويدعو السيد فريدمان إلى المنح الحكومية فوق خط الفقر فقط، التي تبلغ حاليا 25 ألف دولار في العام للعائلة المكونة من أربعة أفراد. وحجر العثرة الوحيد في طريق هذا المقترح هو أن مثل هذه المدفوعات سوف تمكن مجموعات كبيرة من المواطنين من تجميع الموارد والعيش بشكل مريح للغاية على حساب دافعي الضرائب. على سبيل المثال، يمكن لمجموعة من عشر عائلات أن تشكل مجموعة مصغرة فيما بينهم وتستفيد من المنح الحكومية بمبلغ 250 ألف دولار في العام، معفاة من الضرائب، وتنفقها على زراعة الحدائق وتربية الحيوانات. وفي بعض الولايات الأخرى، يمكنهم بمبلغ كهذا زراعة مخدر الماريغوانا بصورة قانونية للاستخدام الشخصي والمبيعات كذلك، وسوف يقضون الأيام يحتسون المشروبات المفضلة، ويناقشون أمور السياسة والفن، أو يعزفون على الغيتار، أو يقرأون الروايات، أو يكتبون الشعر، أو يمارسون السباحة. إن عدد المواطنين المستعدين للتخلي عن الوظائف لأجل حياة كهذه قليل، ولكن حتما سوف يكون هناك بعض منهم. وسوف تكون مسألة وقت فقط قبل أن تصبح مجموعات العائلات المصغرة من عناصر الأخبار الرئيسية على مختلف وسائل الإعلام الاجتماعية. ولكن على الرغم من بساطتها الرائعة كما تبدو، فإن منح الدخل الكبير لدرجة تغطية تكاليف نقل الأسر الحضرية من تحت خط الفقر من شأنها أن تكون من الخدمات غير المستدامة من الناحية السياسية. ومن شأن المنح النقدية الصغيرة أن تكون من الأدوات السياسية المهمة، ولكننا في حاجة إلى وسيلة لتوصيلها إلى مستحقيها من دون تقليل حوافز العمل، ومن أحد الاحتمالات الواردة هو جمع المنح النقدية الصغيرة مع العرض المفتوح لدفع الأجور تحت الحد الأدنى مقابل تنفيذ المهام المفيدة في المجال العام. ولقد حددت التوسعات السابقة في البنية التحتية الوطنية - مثل إدارة تطوير الإشغالات خلال فترة الكساد الكبير ومبادرة نظام الطرق السريعة بين الولايات في عقد الخمسينات - كثيرا من المهام المفيدة التي يمكن تنفيذها بواسطة العمال غير الماهرين ولكن تحت الإشراف الفني السليم. وجنبا إلى جنب، فإن أرباح هذه الوظائف إلى جانب منحة الدخل الأساسي الصغيرة يمكنها تجاوز عتبة الفقر. ليس لدى العمال من حافز قوي يدعوهم لترك الوظائف الخاصة الحالية لديهم، والمشاركون في البرنامج العام ستكون لديهم حوافز قوية للانتقال إلى وظائف أكثر مهارة في القطاع الخاص أو الحكومي بأسرع ما يمكنهم، وهو الانتقال الذي يمكن للبرنامج تسهيله. والبرنامج المشترك من شأنه تفادي الاعتراض القوي على الإعفاء الضريبي على الدخل المكتسب، وهو البرنامج الرائد الحالي للدخل التكميلي، وهو الاعتراض على أنه لا يساعد أولئك الذين لا يستطيعون العثور على فرصة عمل. ولتبديد المخاوف من أن برنامج الخدمة العامة سوف يؤدي إلى تضخم في البيروقراطية الحكومية، يمكن إحالة إدارة البرنامج إلى المقاولين من القطاع الخاص. وعلى الرغم من أن البعض قد يعتبر البرنامج من قبيل العبودية القسرية، فإن المشاركة في البرنامج سوف تكون طواعية بالكامل. وليس من شأن البرنامج العمل على تخفيف وطأة الفقر على أولئك الذين تخيروا عدم العمل، لأن فقرهم حينئذ سوف يكون من اختيارهم، وليس من الظروف المفروضة عليهم بسبب عدم توافر فرص العمل في البلاد. إن عدم وجود شبكة الأمان الاجتماعي المناسبة قد استلزم مكابدة التكاليف البشرية الهائلة، بما في ذلك معاناة الملايين من الأطفال الجائعين. ولكن التكاليف غير المباشرة كانت كبيرة وهائلة هي الأخرى، بما في ذلك أيضا التكاليف التي نتحملها بأنفسنا بسبب أن الإحجام عن التحويلات النقدية قد قيد لدينا قيمة الاعتراف بمصالح الفقراء وبطرق أقل كفاءة وفعالية. ومن الأمثلة على ذلك كان التردد في تبني التدابير القائمة على الأسواق مثل تسعير الازدحام ورسوم النفايات السائلة. وفوائد هذه السياسات، التي طالما دعا إليها حفنة من خبراء الاقتصاد الذين يمكنهم تقديم النصائح والمشورة إلى السيد ترامب، سوف تتجاوز إلى حد كبير تكاليف التحويلات النقدية الإضافية والمطلوبة لتخفيف آثارها على كاهل الفقراء. يقول لنا علماء السياسة إن السياسات التي نعتمدها لا بد أن تكون مقبولة لدى الناخبين من الطبقة المتوسطة - في أغلب الحالات، هم الناس الذين يبذلون التضحيات الكبيرة لاكتساب الدخول التي نفرض عليها الضرائب لصالح برامج الرعاية الاجتماعية – وإن كثيرا من هؤلاء الناخبين سوف يرجعون بردود فعل غاضبة لمشاهدة المواطنين القادرين الذين يعيشون على حساب دافعي الضرائب، مما يؤكد أن المنح النقدية وحدها لن تقوم على أساسها أبدا شبكة الأمان الاجتماعي الملائمة. ولكن البرنامج المشترك للمنح النقدية الصغيرة ووظائف الخدمات العامة سوف يقع مباشرة ضمن تقاليد المساعدات الذاتية للسياسات الأميركية، ويمكننا توفير مزيد من الدعم السخي لصالح أصحاب العوز والفاقة، وفي الوقت نفسه توفير الفرص لهم للمساهمة بصورة مباشرة في ازدهار البلاد.
مشاركة :