يحاول الشاعر اللبناني شوقي بزيع دائماً مقاربة العالم من زاوية مختلفة، طارحاً أسئلة على الذات وعلى العالم، ولا سيما أن الشعر في رأيه هو «التنقيب عن المناطق الأكثر ظلمة في دواخلنا». صاحب «مرثية الغبار»، «فراشات لابتسامة بوذا»، «سراب المثنى»... صدر آخر أعماله تحت عنوان «إلى أين تأخذني أيها الشعر»، وهو في هذا الصدد يرى أن «القصيدة هي تصفية حساب بينه وبين الشعر». غير أن بزيع يمر حالياً في حالة «سُبات» بعد مضي ما يزيد على عام على صدور ديوانه الأخير وهو بانتظار «طوفان من الصور والأخيلة والمفردات سيدفعه إلى الكتابة دفعاً». «الراي» كان لها مع بزيع حوار عن أعماله، عن بوْحه وصمته، وفي ما يأتي نصه: • حمل ديوانك الأخير عنوان «إلى أين تأخذني أيها الشعر». بعد عقودٍ من كتابة الشعر ورسم الصُوَر.. إلى أين أخذك؟ ـ طرحتُ العنوان في صيغة سؤال، وأنا أعرف تماماً أن الشعر لن يأخذني إلى الأماكن المريحة. هو سيأخذني بطبيعة الحال ـ كما أخذني في السابق ـ إلى الأماكن الأكثر قلقاً وإلى البحث دائماً عن الجديد والمختلف، إلى قصائد لم أكتبها بعد. إلى المحاولة العقيمة لفكّ لغز الوجود أو للردّ على أسئلة الحياة والموت والحبّ والخوف والزمن والحرية والوطن وما سوى ذلك. ولكن ليست مهمة الشاعر أن يقدّم الأجوبة، بل هو كما الفن بوجه عام يطرح الأسئلة ويستفزّ فينا ما يمكن أن يدفعنا إلى التحرّك من أجل تغيير الواقع. والقصيدة في الواقع هي تصفية حساب بيني وبين الشعر، فأنا أطرح على الشعر السؤال المؤرق: ما الذي فعلتَه بي، ما الذي أعطيتَني إياه مقابل ما أُصبت به من تعب وأرق وأمراض وخسارة للحياة وتفويت الفرص على الأشياء المتعلقة بتحقيق أحلام أخرى؟ فأنت لم تعطني سوى حفنة من الكلمات، لكنك أخذت مني في المقابل حياةً بكاملها لن تُمنح سوى مرة واحدة. لكن طبعاً هذه الأسئلة هي من باب العتاب أو المكاشفة مع النفس كما مع الشعر، وبالتأكيد لو أُتيح لي مرة ثانية أن أعود إلى مطالع الصبا لاخترتُ أن أفعل ما فعلتُه. أي لاخترتُ الشعر. ورغم كل هذه الخسائر التي أتحدث عنها، هناك معنى للحياة يعطيني إياه الفن، وهو المعنى الأعمق المتّصل بتحقيق أنفسنا وذواتنا، والمتّصل بالردّ على الموت والبحث عن الخلود ولو كان خلوداً نسبياً وغير متيَقّن منه. فبالطبع ليس كل مَن يكتب الشعر مرشحاً للخلود. هناك شعراء يموتون مع موتهم البيولوجي، لكن على الأقل نحن نطمح إلى أن نبقى عبر قصائدنا. وقبل أن يفكر الشاعر حتى بالخلود، هو بطبيعة الحال يكتب كي يستعيد التوازن المفقود بينه وبين العالم. فنحن لا نكتب إلا إذا كنا نعيش حالة من الخلل في التوازن بيننا وبين الأشياء؛ هذا الخلل قد تكون له علاقة بما نعانيه من مشاكل يومية، بما نعانيه على مستوى الفارق بين الممكن والمُتخيَّل، وقد يكون على مستوى النقص بالحرية وبالهواء النظيف، والبحث عن حياة أفضل. إذاً الفن يتدخل كي يصالح الإنسان مع الوجود. وأعتقد أن هذه هي الجدوى الأساسية من الشعر. • ما الذي يمكن التعرف إليه في شوقي بزيع من خلال هذا الديوان أو أي ديوان آخر من أعمالك، بالنظر إلى ما يتضمنه من شجون وهموم ونوازع ورغبات وقلق وأسئلة؟ ـ هذا السؤال يُطرح عادةً على القارئ نفسه بالقول ما الذي تراه في شعر هذا الشاعر أو ذاك ولا تراه في شخصيته. أعتقد أن الشعر هو التنقيب عن المناطق الأكثر ظلمة في دواخلنا. المناطق التي عادةً لا تظهر في السلوك اليومي الذي هو سطح حياتنا وسلوكنا. السلوكيات الأعمق تتبدى من خلال الشعر. طبعاً أنا منذ ديواني الأول حتى ديواني الأخير وعبر 16 عملاً شعرياً، أحاول دائماً أن أقارب العالم من زاوية مختلفة. ودائماً هناك أسئلة مطروحة على الذات وعلى العالم. في البدايات كانت الأسئلة متّصلة أكثر بمسألة الأرض ومسقط الرأس والجنوب والمقاومة والدفاع عن الأرض. وكانت هناك بالطبع أسئلة موازية متّصلة بالمرأة والحب، لأنني أفردتُ للمرأة نحو ثلث قصائدي. ولكن شيئاً فشيئاً ومع تعمّق التجربة الشعرية والتقدم في السن، تتّسع مروحة الموضوعات التي يقاربها الشاعر والتي قاربتُها أنا بشكل شخصي. فهناك عدد لا يحصى من الموضوعات، وحين تستعيدين كتبي وأعمالي الشعرية ترين أن في كل مجموعة هناك لمسة مختلفة عن المجموعة التي سبقتْها، وهذا ما أشار إليه العديد من النقاد، لكن طبعاً حاولتُ أن أقارب التراث والأسطورة والتاريخ وأن أعيد صوغ شخصيات تاريخية من خلال مساءلتي لها من جديد. دائماً هناك محاولة لسبر أغوار اللغة من جهة والعالم من جهة ثانية. • يُعرف عن إحساسك رهافته، وعن مفرداتك سلاستها، وعن صورك غناها بمعناها... ما الذي يُبعد في رأيك صناعة الشعر عن التصنع؟ ـ دائماً ما أقول ان علينا التمييز بين الصنعة والتصنّع. فإذا كان الشعر والنثر صنعتين كما يعبّر العرب وكما وصفوا هذين الأسلوبين في الكتابة بـ «فنّ الصناعتين»، إلا انّ الصنعة هي بمعنى المهارة التي يجب أن تتوافر عند كل كاتب في الأساس كي يُخرِج اللغة من مادتها الخام ومن عفويتها الصرف لتتحول إلى فن عال وراق، وهذا أمر مطلوب. ولكن أهمّ ما في الصنعة بالنسبة إلى الشعر أو النثر هو إخفاؤها، بحيث يبدو الشعر لشدة إنسيابه ولشدة اتصاله بالقلب كأنه مكتوب بعفوية. وعلى الصنعة ألا تتحول إلى تصنّع أو تكلُّف، تماماً كما هو حال المرأة التي من الممكن أن تساعد على إظهار جمالها بلمسة من المساحيق، ولكن إذا زادت هذه المساحيق عن حدّها فستتحول إلى نوع من التجميل الكاذب الذي يُفسِد براءة الجمال الأول. اذ ان المبالغة في استخدام المساحيق هو إخفاء للوجه وليس إظهاراً له، وهو قتْل لروح الجمال. وهذا الأمر ينطبق تماماً على الشعر، بمعنى أنه من المسموح للشاعر بأن يصنع قصيدته ولكن البراعة تكمن في إخفاء هذه الصناعة كي تبدو الكتابة وكأنها تلقائية ومكتوبة من المرة الأولى. • لكَ في الرثاء قصائد كثيرة، غير أن قصيدة جبل الباروك التي رثيتَ فيها الشهيد كمال جنبلاط اعتبر البعض أنها شكلت محطة مهمة في مسيرتك وبين أعمالك. ما رأيك في ذلك؟ ـ بدايةً أنا من الشعراء الذين أفردوا للرثاء مكانة خاصة في نتاجهم، وهذا أمر ليس مفتعلاً ولا مقصوداً بحد ذاته، ولكن ربما لأنني ـ شأني شأن الكثيرين ـ خسرتُ عدداً غير قليل من الأحبة والأصدقاء سواء كانوا شعراء وكتّاباً أو كانوا أصدقاء لي في القرية أو كانوا عمالاً وفلاحين بسطاء وعاديين. كنتُ أشعر بأن شيئاً من داخلي قد مات مع هؤلاء، وفي كل رثاء لشخص ما كنتُ أرثي نفسي بشكل أو بآخر. يعني هذا الجزء المفقود مني والذي سقط مع المفقودين تحت التراب. لذلك كان الرثاء أيضاً سؤالاً كونياً عن الخسارة والفقدان وعن هؤلاء الذين يشكلون جزءاً أساسياً من حياتنا ثم يتوارون فجأة. هو رثاءٌ للنفس بقدر ما هو رثاء للغير. رثاء للوجود بقدر ما هو رثاء للموجود. وعادةً ما تكون لغة الرثاء لغة شفافة تفيض بالشجن ولغة المكاشفة الداخلية والاحتجاج على الظلم الذي نتعرّض له عبر خسارتنا مَن نحبّ. أما بالنسبة إلى «جبل الباروك» فهي أيضاً قصيدة رثائية كتبتُها في مطالع حياتي الشعرية، ذلك أن شخصية كمال جنبلاط كانت قد طبعتْ عصراً بكامله، وأنا كنتُ من ذلك الجيل الذي رأى في غيابه خسارة فادحة وكبرى لا تُعوّض. فما فقدناه كان أبعد بكثير من الرجل السياسي الذي قد يخطئ وقد يصيب في اجتهاده، ذلك أن ما هو أعمق في كمال جنبلاط هو هذا المثقف الموسوعي وهذا المتصوّف المتأمّل في الحياة، الذي يختلف عن كل الطبقة السياسية اللبنانية. لذا كانت فاجعة حقيقية، لكن القصيدة كُتبت على نظام الشطرين أو بحسب الوزن الخليلي، ونظر إليها البعض بوصفها مفصلاً في شعري، ولكنني أرى أنها قصيدة لها وضع خاص اذ ربما هذا التعلق بكمال جنبلاط هو الذي جعلها تبدو على تلك الصورة من الصدق والحرارة وربما من المبالغة أحياناً في توصيف هذه الشخصية الاستثنائية. أما في ما خص إذا كانت هذه القصيدة مفصلية أم لا، فهذا يعود تقديره إلى النقاد وليس لي. • مضى ما يزيد على عام على نشر ديوانك الأخير.. ما جديدك؟ ـ أنا الآن في فترة «البيات الشتوي»، كما العبارة التي تطلق على الدبب القطبية في سيبيريا، فأنا الآن في حالة سُبات يمتدّ منذ عام ونصف العام، حيث لم أكتب أي قصيدة جديدة، وهذا أمر عادي بالنسبة لي، فأنا أحياناً أتعرّض لفترات من الصمت، طبعاً غير المقصود، لكنه قد يمتدّ إلى خمس سنوات أحياناً كما حصل في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. وأحياناً يمتدّ إلى سنتين أو ثلاث. وأنا أعيش دائماً حالة خوف من النضوب. أعيش قلقاً عالياً وخصوصاً بعد مرور السنة الأولى على الصمت. ولكن أحياناً وأنا غافل عن كل شيء ومن دون أن أتقصد، يعود ذلك الطوفان من الصور والتخيلات والمفردات ليدهمني ويدفعني إلى الكتابة دفعاً. ومن هنا قد تكون فترة السبات هذه فترة تخزين وتأمل في الأشياء وفترة مطالعة، وأنا لا أكفّ عن القراءة ولديّ أمل دائماً بالعودة إلى الشعر. غير أنني إذا كنتُ سأنقطع بشكل نهائي، فهذا أمر لا يمكنني أن أتحكم به لأن هناك شعراء كثيرين ـ عربا وأجانب ـ خلدوا إلى الصمت المطبق في نهاية الأربعينات وأوائل الخمسينات من حياتهم. ولكني أعتبر طبعاً أن الموت الحقيقي بالنسبة إلى الشاعر هو موت اللغة أي عندما يصاب بالسكتة الشعرية وهي أصعب من السكتة القلبية. وآمل أن تعود إليّ تلك الكهرباء التي فارقتني خلال فترة وجيزة.
مشاركة :