على رغم أن وسائل الإعلام في تركيا قامت بدور أساسي في إفشال محاولة الانقلاب، لكن يظل مقلقاً حال الصحافة والإعلام في تركيا، في ظل عملية التطهير الواسعة ضدهما، وتصاعد خطاب التخوين الذي يتبناه الرئيس التركي وحكومة «العدالة والتنمية» ضد الإعلام المناهض لتوجهات أردوغان. وتتسارع وتيرة الإقصاء ضد الإعلام والصحافة بعد الانقلاب الفاشل الذي شهدته البلاد في 15-16 تموز (يوليو) الماضي، ويتصل بذلك حجب مواقع التواصل الاجتماعي «فايسبوك» و «تويتر» و «إنستغرام» وتطبيق «واتس أب» للتواصل الاجتماعي عشية اعتقال قياديين من حزب «الشعوب الديموقراطي» في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري. سلوك السلطة تجاه الإعلام، واعتقال الصحافيين ومحاكمتهم من دون أدلة على ارتكابهم أي جريمة أو اقترافهم أي ذنب، فقط لأنهم يختلفون مع توجهات السلطة، دفعت رئيس حزب «الشعب الجمهوري» كيليجدار أوغلو إلى رفض تذرع الحكومة بالمحاولة الانقلابية لـ «تصفية المعارضة والإعلام الحر». ووصلت أزمة الإعلام التركي إلى ذروة التأزم مجدداً بعد توقيف 18 من إعلاميي صحيفة «جمهورييت» وإدارييها، وهي أقدم مطبوعة في تركيا، وأطلقها كمال أتاتورك بعد ستة أشهر من إعلان الجمهورية التركية عام 1924، وتحت إشرافه المباشر. والأرجح أن ملاحقة كتاب وصحافيين من «جمهورييت» بدعوى الترويج لأفكار منظمات إرهابية، يحمل قدراً من الشكوك، إذ كيف يمكن مطبوعة تعبر عن التيار اليساري والكمالية، أن ترتبط علنية أو من وراء ستار بأكبر تنظيمين معاديين لليسار والكمالية- جماعة غولن وحزب «العمال الكردستاني». توقيف صحافيي «جمهورييت» ومداهمة مكاتب الجريدة لم يكن الأول من نوعه، فبعد الانقلاب تم إغلاق العديد من الصحف المطبوعة ووسائل الإعلام المرئية، لاتهامها بالترويج للإرهاب. كما علقت السلطات التركية بث عشرات القنوات الفضائية الموالية للأكراد من قبل القمر الصناعي «تركسات»، وكانت تبث من ديار بكر جنوب شرق تركيا، حيث غالبية السكان من الأكراد، وذلك بموجب حالة الطوارئ التي تم تمديدها في 29 أيلول (سبتمبر) الماضي لمدة ثلاثة أشهر أخرى بعد توصية مجلس الأمن القومي بحجة ضمان حماية الديموقراطية وسيادة القانون. ووصل عدد المعتقلين من الصحافيين وأصحاب الشركات الإعلامية منذ انقلاب 15 تموز الفاشل إلى نحو 142 شخصاً، كما أغلقت منذ ذلك الوقت بحسب اتحاد الصحافيين الأتراك نحو 170 وسيلة إعلامية، من بينها 16 قناة تلفزيونية و3 وكالات أنباء و33 إذاعة و45 صحيفة في مقدمها صحيفة «زمان» المحسوبة على حركة «خدمة» التي يتهمها أردوغان بتدبير الانقلاب ونحو 15 مجلة أسبوعية إضافة الى 29 دار نشر وتوزيع، الأمر الذي جعل 2500 صحافي عاطلين عن العمل ناهيك عن عدد كبير من العاملين والموظفين الإداريين. العنف الممنهج ضد الإعلام والصحافة في تركيا لم يقتصر على عملية «الإغلاق» و «وقف البث»، فبموجب سلطة حال الطوارئ مررت الحكومة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، قانوناً ينص على «حرمان أي صحيفة أو مطبوعة من أي تمويل إعلاني، في حال لم تطرد أي موظف يحاكم بتهمة متصلة بالإرهاب». والأرجح أنه بموجب هذا القانون، فإن قطاعاً واسعاً من الصحافيين الأتراك الموقوفين قضائياً مرشحون للطرد من أعمالهم، حتى وإن لم تثبت عليهم التهم الموجه إليهم ناهيك عن إعطاء الحكومة السند القانوني لإغلاق وتصفية وسائل الإعلام التي تقف الى جانب المعارضة. استهداف السلطة في تركيا للصحافة في وقت سابق كشفت عنه مؤشرات عدة، من بينها رفع أردوغان في كانون الأول (ديسمبر) 2014 قضية بحق صحيفة «بيرغون» المعارضة بعد نشرها عنوان «خيرسز»، أي «لص» باللغة التركية، في إشارة تحمل سخرية من قرار حزب «العدالة والتنمية» بفرض تدريس الأبجدية العثمانية في المدارس. تتصل بذلك التصريحات الرسمية الخشنة بين أردوغان والصحافة طوال الوقت وآخرها توجيه مؤسسة الرئاسة تهديداً صريحاً إلى رئيس تحرير صحيفة «جمهورييت»، جان دوندار العام الماضي، بعد نشرها صوراً لشحنة أسلحة خلال تهريبها إلى سورية، وأوقفتها الشرطة قبل نحو ثلاثة أعوام. سلوك حكومة تركيا ضد الإعلام والصحافة عشية الانقلاب الفاشل في تموز الماضي، ورفضها طلب الاتحاد الأوروبي إعادة تعريف مفهوم الإرهاب وإعادة صوغ قانون مكافحته، دفعا البرلمان الأوروبي إلى مطالبة السلطات التركية بـ «تقليص نطاق تدابير الطوارئ، بحيث لا تستخدم لتقويض حرية التعبير»، كما اعتبر رئيس البرلمان مارتن شولتز، أن استهداف صحيفة «جمهورييت» يشكل «تجاوزاً لخط أحمر آخر ضد حرية التعبير في تركيا». من جهته، شبه وزير خارجية لوكسمبورغ جان أسيلبون إجراءات أنقرة ضد الصحافة والإعلام بـ «الحقبة النازية»، بينما قال وزير خارجية النمسا، إن «الدولة التي تحاول حبس الصحافيين وزعماء المعارضة ليس لها مكان في الاتحاد الأوروبي». وواصل الاتحاد الأوروبي انتقاد أنقرة بسبب سياستها الخاطئة ضد الصحافيين، فقد حض البرلمان الأوروبي مطلع تشرين الثاني الجاري تركيا على «إطلاق جميع الصحافيين والعاملين في الإعلام، المحتجزين من دون أدلة دامغة على ارتكابهم نشاطات إجرامية»، وأضاف «أن المحاولة الفاشلة لا يمكن الحكومة التركية أن تتخذها ذريعة للاستمرار في إسكات المعارضة المشروعة والسلمية، أو حرمان الصحافيين والإعلام من ممارسة حقهم في حرية التعبير، من خلال إجراءات وتدابير غير متناسبة وغير قانونية». الداخل التركي كان صوته عالياً أيضاً في انتقاد الممارسات التعسفية ضد الصحافة والصحافيين، فعشية إجراءات ما بعد الانقلاب قال رئيس جمعية الصحافيين في تركيا، تورغاي أولكايتو، «هذا محزن وغير مقبول»، بينما اعتبر الصحافي التركي جان دوندار المقيم في أوروبا بعد حكم بسجنه بتهمة إفشاء أسرار عسكرية أن تركيا باتت «أضخم سجن للصحافيين في العالم». ويعبر واقع الإعلام والصحافة في تركيا إلى حد كبير عن طبيعة الأزمة التركية التي تعاني استقطاباً سياسياً ومجتمعياً غير مسبوق ينذر بعودة البلاد إلى ثمانينات القرن الماضي، ففي الوقت الذي تستغل السلطة وجمهورها فرصة الانقلاب للإمساك بمفاصل المشهد الإعلامي، تعتقد المعارضة أن هذا السلوك تجاه الصحافة يكشف عن تراجع في الحقوق والحريات. وفي تعليقه على توقيف إعلاميي «جمهورييت» قال كيليجدار أوغلو «اتهام الصحيفة التي أسسها أتاتورك، وكانت أهم منارة للعلمانية والحرية ومبادئ الجمهورية، بدعم الانفصاليين الأكراد أو جماعة غولن، لا يمكن أن يصدر إلا عن شخص عديم الشرف»، وأضاف ساخراً «نسوا أن يتهموا الصحيفة بدعم تنظيم داعش أيضاً». إن سيطرة الحزب الحاكم في تركيا على وسائل الإعلام والصحافة مقابل تقييد المطبوعات الصحافية والقنوات المعارضة تمثل منعطفاً مهمّاً على صعيد انتكاس حريات الإعلام التركي والتجربة الديموقراطية التي طالما كانت نموذجاً للإسلام الحضاري الذي يحتذى به في الغرب. وقد نجحت حكومة «العدالة والتنمية» في فرض سيطرتها على معظم وسائل الإعلام في تركيا منذ ما قبل الانقلاب، ففي شباط (فبراير) 2014، مررت الحكومة قانوناً يسمح بفرض الرقابة الشاملة على الإنترنت، والاحتفاظ ببيانات مستخدمي الشبكة العنكبوتية بين سنة وسنتين عبر وضع لائحة بالمواقع التي يدخلون إليها، والكلمات المفتاحية التي استخدموها، ونقلها إلى السلطات المختصة عند الطلب. في هذا السياق تبدو الصحافة ومعها الإعلام في تركيا مرشحة لمزيد من التراجع والتكميم بفعل تقييد حرية الإعلام واعتقال الصحافيين، ولكن تحت مسميات قانونية هذه المرة بموجب حال الطوارئ التي باتت تخفي وراءها من أهداف أكثر مما تكشف. * كاتب مصري
مشاركة :