محمود قرني يتحصن بالشعر

  • 11/21/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

القاهرة: الخليج وقف الشاعر محمود قرني ثابتاً، على أرض القاهرة، رغم المغريات الكثيرة، وبمحض إرادته أسقط من يديه، كل ما يعوق خطواته نحو الشعر، أزاح أشياء، وأهال التراب على أشياء أخرى، حتى عثر على الشعر نقياً، وهناك، خلق عالمه الخاص، المتفرد، بصبر، وشقاء، هل يستحق الشعر كل هذا العناء؟ وكيف تراكمت تلك الهموم؟ ومن أين جاءت؟ من فقراء القرية المنسيين؟ من قسوة القاهرة؟ أم من التحديق في المأساة الإنسانية؟ أسئلة تبدو ملحة، في حضرة شاعر، يخبئ في قلبه هموماً عميقة، شكلت، تجربته الشعرية، وحياته، البسيطة كالماء، الصريحة، كطلقات الرصاص. ثمة أسئلة سابقة، موضوعها النشأة وتاريخ التكوين الأول، لكنها مشاعر الهلع التي تنتاب صاحب لعنات مشرقية حين يتطلب الأمر التفتيش في الذاكرة المعبأة بالصور والحكايات لا أعرف الأسباب الكامنة، خلف مشاعر الهلع، التي تنتابني، تجاه تلك الأسئلة لم أجدني في أي لحظة قادراً، على التعامل بالاحترام الواجب مع سيرتي الشخصية، وستظل الأسئلة من هذا النوع مخيفة ومربكة بالنسبة لي. ربما لأنني، إذا ما تحرَّيتُ الصدق، سأصطدم بتركة من المخازي لا يستطيع رجل شرقي إلا أن يفر أمامها ناكراً أن يكون قد جمعه بها تاريخ، أي تاريخ. أما الوجه الآخر لتلك الحقيقة فهو اعتقادي في حالات كثيرة أنني لا أملك ما يستحق التذكر بالأساس، لكن، ثمة هاجس، متوهم غالباً، يرتبط بأنني شاعر لا يستطيع العمل تحت سطوة الأفعال المضارعة، لا أكره شيئاً في اللغة قدر كراهيتي للأفعال المضارعة، الفعل الماضي هو تعبير القوة الذي دفع رامبو للكتابة إلى ناشره ليخبره أنه موجود في الحبشة للبحث عن لغة لم تلوثها العادة! من هنا أعتبر الماضي هو المملوك الذي أرسلته الآلهة لرعاية الشعر، وربما لهذا السبب تحديداً أخشى أن يتسرب هذا الماضي من بين أصابعي ويخسر الشعر خبيئة لا يجب أن تكون ملكاً لغيره. يتابع القرني: الكثير من تداعيات القرية وعوالمها السحرية المستغلقة موجودة في الكثير من قصائدي لاسيما في الدواوين الأولى، لكن عوالم القرية لم تكن الأكثر تأثيراً، كانت الأسرة هي صاحبة الدور الجوهري في تكويني رغم أنها أسرة لم تكمل تعليمها، الأم تقرأ وتكتب إلا قليلاً، أما الأب فغادر التعليم مبكراً ليفلح في أرض أبيه التي كانت كبيرة نسبياً، لم تكن أسرتنا فقيرة كما لم تكن غنية، كانت ضمن مساتير الطبقة المتوسطة في الريف المصري، كان بعض وجهاء العائلة يعدون من أعيان القرية بل والقرى المجاورة، ورث أبي تركة معقولة وورثت عنه الكثير من تعففه وإبائه وأظنني ورثت كذلك سلامة فطرته. ويقول: كنت أكبر إخوتي وكان أبي لا يترك شأناً يخصني إلا واقتحمه، هذا أقام علاقة متوترة بيني وبينه طوال الوقت، ثم تفاقم الأمر عندما تبدى له أن اهتمامي بالقراءة والكتابة سيحولان دون إكمالي دراستي. كان محباً للتعليم بشكل شبه مرضي وصديقاً لكبار الموظفين والوجهاء.. كريماً لدرجة كانت موضع سخط إخوته وأعمامه، وكانوا دائماً ما يتهمونه بأنه سيضيع تركته وينتهي به الأمر متسولاً، لكن ذلك لم يحدث. بفخار شديد، روى له أبوه، ربما لمئات المرات، ذات الحكايات عن بطولات منسوبة لجده باعتباره أول ثائر في القرية يستطيع أن يطيح بعمدة حاصل على رتبة البكوية، في معركة بدأت قبل ثورة يوليو لكنها توجت مع انطلاقها، وانتهى الأمر بعزل عمدة القرية وإحالته لمحكمة الجنايات بتهمة حرق مزرعة مواشٍ يملكها جده، وكان العاصم الوحيد للعمدة المعزول أن يأتي ذليلاً راكعاً طالباً الصفح، وهو ما كان. امتلأ الشاعر بالحكايات عن جده الثائر، فانحفرت في مكان أصيل من ذاكرته، لذا ليس غريباً أن تكون دواوينه الشعرية: حمامات الإنشاد، خيول على قطيفة البيت، هواء لشجرات العام، طرق طيبة للحفاة، الشيطان في حقل التوت، أوقات مثالية لمحبة الأعداء، قصائد الغرقى، لعنات مشرقية، تفضل هنا مبغى الشعراء ثورة على كل ما ينال من كرامة الإنسان.. ليس غريباً أن تتجه قصائده، نحو الهم العام، رغم الإصرار الدائم على حصر، قصيدة النثر، في الذاتي والشخصي فقط. كثيراً ما حكى لي أبي كيف أن فلاحي القرية لم يكن باستطاعتهم المرور أمام مجلس العمودية دون الترجل من أعلى ركائبهم وتقديم التحية والانحناء، الاستثناء الوحيد من تلك المراسم كان عائلة جدي وأشقائه ومن تناسل من نسلهم، فهو الشخص الوحيد المسموح له بالجلوس إلى جوار العمدة واضعاً ساقاً على الأخرى! وبعد أن كبرت منحني أبي حرية التنقيب في مكتبة صغيرة تركها جدي الذي لم يكمل تعليمه، لكنه كان يملك خطاً جميلاً وبلاغة قرآنية فريدة طالعت في تلك المكتبة صحيح البخاري وكتاب الآمالي للإمام القالي وبعض أجزاء من كتاب ألف ليلة وبعض السير الشعبية مثل سيرة الأميرة ذات الهمة وكان أطرف ما وجدته بين أضابيرها بعض الشكاوى التي أرسلها جدي للزعيم عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر، كانت سلسلة شكاوى تحت عنوان واحد هو صرخات في الهواء، ثم يلي العنوان عادة بيت جميل من الشعر يقول: لا تلم كفي إذا السيف نبا/ صح مني العزم والدهر أبى عرفت بعد أن كبرت أن البيت لحافظ إبراهيم وكنت مندهشاً أشد الدهشة عندما صادفت بعد ذلك نصوصاً لشعراء كبار كأنهم كانوا يسجلون تلك البطولات الصغيرة التي حدثت في أماكن بعيدة لا يعرفون عنها شيئاً. يعتبر قرني أن دراسته القانون بين أهم ما فعل، فالقانون- بحسب قوله - أعلى تعبيرات علم المنطق، وهو بدوره أعلى تعبيرات العقل الإنساني الذي أنضجته التجربة لا يمكن لعاقل أن يتصور العالم دون فكرة العدالة، وهي أفكار تشكلت لدى الإنسان في رحلة بحثه عن النظام رداً على شواغل البشرية التي دهست لحمها عجلات الحروب والفوضى والمشاعية والحروب الدينية ومظالم الإقطاع والأبوية والكهانة وأثرياء الحروب، وقد كان غياب فكرة العدالة دافعاً من دوافع تنامي مفهوم القوة كأداة لحسم الصراعات، ودعيني أتوقف أمام مقولة شيشرون: القانون سيد، وإذا غاب القانون فلا سيد، وحيث لا سيد فالكل سيد، وحيث الكل سيد فالكل مسود، القوة تنشئ الحق وتحميه. وقد كانت رؤية مؤسسي النظريات الاجتماعية الكبرى مثل جان جاك روسو وفولتير ترى أن تنامي مفهوم العدالة هو الذي استطاع أن ينقل البشرية من حالتها الغريزية أي المشاعية إلى حالتها المدنية، ولم تكن علاقتي بمفهوم العدالة على إطلاقه سوى جزء من مشاغلي بأزمة الوجود في أبعادها الماورائية، وقد خرجت من تلك الأزمة ولديّ قناعات بأن جميع الأفكار العظيمة بما في ذلك الأديان الكبرى نالت أكبر إساءة من البشر، وطالما تم استخدامها لإشعال الفتن وتوسيع الأطماع والحروب المذهبية والعشائرية لصالح الحكام والساسة ورجال المال، لذلك كانت الدولة الحديثة عدوة لكل المفاهيم العقائدية. في نهايات العام 1987، انتقل الشاعر إلى القاهرة وعمل محامياً في شركة حكومية.. كان يخشى الصحافة، والعمل بها، فقد كانت نصيحة كبار الشعراء له أن الصحافة قاتلة للمبدع بعد ذلك عمل بالصحافة، لكن، وفقاً لتعبيره، كان لديه من النضج ما يحميه، من غوائلها ومن ارتباكاتها وامتيازاتها التي تستطيع خلق مراكز نفوذ ودوائر، مصالح مدمرة في نهاية الأمر: كنت حريصاً على ألا تكون الصحافة سبباً في حصولي على امتياز من أي نوع، لأنني كنت أعلم أنني سأتركها يوماً ما وقد حدث ذلك بالفعل بعد أن استقلت من جريدة القدس العربي بعد 14 سنة من العمل عقب أن اشترتها قطر، أنا الآن حر من كل ذلك، كسبت أشياء كثيرة وخسرت ما هو أكثر، لكن بقيَ لي الشعر متحصناً بنفسه لا بغيره. لا يفضل الشاعر أن يتحدث عن القاهرة كعاصمة للساسة المهزومين، فهو يراها دائماً، جميلة ومغرية، ومخيفة ككل العواصم الكبرى.. ككل حاضرة تعزز فكرة الإنسان الحر، وتقوض بالتالي صورة النسيج العشائري والقبلي وكما أحببت القاهرة تشردت في شوارعها أيضاً، وامتهنت أحقر المهن مخافة أن أعود مهزوماً إلى مسقط رأسي، فهذا كان يعني نهايتي، كان أبي يراهن على تلك الهزيمة ليكرهني على العودة إلى قريتي، كان يحلم بأن أبقى إلى جواره، أن أكون محامياً كبيراً يستطيع هو أن يوفر له كل أسباب النجاح، لكنني كنت قد اخترت مصير جلجامش الذي رأى فقتلته المعرفة، كان جنوني بالشعر ومساجلات الكبار الذين تعلمت على أيديهم شاخصة أمام عيني، القاهرة كانت بالنسبة لي أعلى تعبيرات الثقافة المخترقة التي افتقدتها بعيداً عن مركزيتها القاتلة والساحرة، كانت الأطواق التي تحيط رغبتي في التجدد تقلص قدرتي على المغامرة في إطار ثقافة يبدو احتفاؤها بأصالتها مشوباً بالمزيد من المبالغة. ومع أن القاهرة فتحت لي ذلك الأفق المجرب على مصاريعه، إلا أنني لم أكن متحمساً للانخراط في صالونات كان يقيمها وجهاء في الحركة الثقافية في الثمانينات والتسعينات كانت فكرتي عن استقلال نصي دون أن أتبع ظلال غيري فكرة ترتقي إلى مرتبة القداسة، فطالما رأيت مرتادي تلك الصالونات من أقراني وهم يسرفون في تقليد أصحاب تلك الصالونات خسرت كثيراً جداً، وملأت أسماء أخرى فضاء عابراً، لكنني استطعت أن أصنع لنفسي موقعاً من نوع آخر، موقعاً لا يدعيه أحد ولا يستطيع، باختصار أنا لم آخذ من القاهرة أو من غير القاهرة سوى بقدر حاجتي حتى الحواري الشعبية التي عشت فيها عشقتها وكنت أتنسم عطن شوارعها في الهزيع الأخير من الليل، وطالما فعلت ذلك. ثمة إزاحة واضحة، لكل ما هو ذاتي وشخصي في نصوص الشاعر دفعتنا لسؤاله: هل تخشى الاعتراف؟ أنا ممن يخشون الاعتراف، رغم أنني أحببت ما يسمى بالشعراء الاعترافيين، ربما هذا ما يفسر قلة كلامي لفترات طويلة من حياتي، كنت أمارس الصمت معظم الوقت بين أفراد أسرتي، فضلت دائماً الهجوع إلى غرفتي لدرجة دفعت أمي للهلع معتقدة، بدوافع المعتقد الشعبي، أن كل من انكبوا على أوراق غامضة على هذا النحو واستمروا في عزلتهم انتهوا إلى الجنون. كانت أمي تخشى عليّ فعلاً من الجنون، وكانت تبكي أحياناً من فرط خيبة أملها فيَّ. ثمة اعترافات ناقصة هنا عن بيئة طاردة وغير متعلمة كان على المرء أن يبرهن على فضيلة خشونتها. لم يقبل صاحب الشيطان في حقل التوت، في أي مرحلة من حياته، بأن يكون الشعر، خلف مدارات الذاكرة، يقول إنه ليس رومانسياً، يرتدي ثوب براءة مدعاة، كما أنه ليس مستشرقاً يعزز حضوره، بقبعة مستعارة، وبالإجمال ليس رومانسياً على أي نحو، ومع ذلك يؤكد أن الشعر، كما كان حياته، فهو أيضاً نكبته، وعلى نحو أدق، هو حياته المنكوبة.

مشاركة :