نحن قدمنا أبناءنا جرحى وشهداء..وأنتم الآن تمسكون الكراسي وتتنعمون وتنسونا.. لماذا لا تلتفتون إلينا؟ بهذه الصرخة افتتحت ريدة الكدوسي التي قتل ابنها رؤوف برصاص الشرطة عام 2011 وترك ابناً رضيعاً جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد في تونس الجمعة الماضية. .لن نسكت ولن نسلم أو نتنازل عن حق أولادنا. شيئاً فشيئاً ومع انهمار كلمات أمهات الشهداء كطلقات الرصاص انهمرت دموع الحضور من الإسلاميين واليساريين والمستقلين؛ بل إن صوت ديفيد تولبار رئيس المركز الدولي للعدالة الانتقالية وهو يجهش بالبكاء تردد في القاعة عندما وقفت فاطمة التي قتل ابنها برصاص الشرطة صارخة: ابني مات من أجل الوطن والقضاء العسكري لم ينصفنا.. من جلب لكم الحرية؟ من جلب لكم الديموقراطية.. من ياتي لي بحق ابني؟ كانت المتحدثتان من التيار المستقل فلما جاء دور التيار الإسلامي قالت أرملة كمال المطماطي إن شرطة قابس اعتقلت زوجها وقتلته تحت التعذيب لكنها أخفت الأمر عن عائلته التي ظلت تبحث عنه من سجن الى آخر الى أن علمت انه قتل ولم تحصل على حجة وفاته الرسمية. هكذا جمع الاستبداد كل القوى التي اجتمعت لمحاكمته مؤكدة أن كل شيء في دنيانا مآله الى زوال.. كله الى البدد..إن آجلاً أو عاجلاً لابد أن يعلم كل مستبد أن الظلم مهما طال لن يستتب .. لقد أثبتت جلسة الاستماع التونسية للتونسيين جميعاً خطأ من يتصورون أن الحق منهم لن يقترب وأنهم في أمن طالما تحصنوا بجحافل مقاومة العدل بدعوى مقاومة الشغب. لقد مثلت ريدة وفاطمة والسيدة الأرملة أولئك الذين خرجوا ونافحوا وهتفوا للحق والشجاعة حتى لايتم ترسيخ الظلم والذل والمجاعة. كنت أتابع الجلسة وأنا أتأمل هذا الشاب الذي بدا قعيداً.. كيف كان كالمهر الجامح في المرج..كم كان فتياً وعصياً .. كان اذا ذهب الى الميدان واستلقى قليلاً فوق العشب.. يسأل ويناقش وينافح ثم يهب.. يملأ بهتافه للحرية وللحق ثنايا القلب. وهذا الفتى الذي كان يصهل في حلبات النزال سابحاً في اللهيب ومتشحاً بالألق. وذاك الذي كان في الضحى يقبل كالغزال..والمعمارات حول الميادين قبل رحيل الشفق من شرفاتها الخضر يدنو كالهلال. أعرفهم ونعرفهم ونعرف هذه الفتاة التي كانت كاليمامة في الطاق.. قبل أن تفر على البرق وتشق بهتافها الصمت والرفض للزمن الذي لا يطاق. وهذا الشيخ الذي فر من ضلع الليالي شبحاً..أجردَ كالموت يطوي ظمأه..قمراً أسود يبكي دمه.. يبكي عمره الذي خذله. استمعوا أيها السادة المستمتعون بالحرية لهذه السيدة..تأملوا وجهها ففي عينها غابات من القهر وأجيال بل جبال من الصبر..ونار في القلب موقدة وعلى جبهتها بقايا السنين المجهدة. أيها السادة الذين تلعثموا في الإجابة عن الأسئلة.. انتبهوا .. النار مازالت متأججة وباقية.. ألم تسمعوا في القاعة صوت الجلجلة؟ إنهم شهود المسيرة والقافلة..مازال لديهم آلاف الأسئلة. إنهم ينقلونها نيابة عمن اختاروا الشهادة واكتفى كل منهم بصورة على جدار وأخرى في قلبٍ معلقٍ بسلسلة! أيها المستمتعون وحدهم بالحرية انتبهوا..الحق له ألف يد ويد.. ووجوه وعيون بلا عدد.. لكنه قد يخفيها مؤقتاً قبل أن ينفجر في وجوه الذين يتصورون أن أيامهم الى الأبد كان المشهد التونسي يؤكد للشعب.. أنه سيأتي يوما يقف فيه كل من شرد وعذب..بل كل من صاح وسب. سيأتي يوم ينكشف فيه هؤلاء الذين يربون في قنواتهم وصحفهم الأكاذيب والفتن والخرائب قبل أن يطلقوها تتكاثر في القرى والمدن كالأرانب. جلسة الاستماع في تونس أثبتت للحاضرين من أهل الحكم والسلطة قبل غيرهم أن أحداً لن ينسى ذلك الجسد المحروق، وجثامين الشهداء المكدسة في ثلاجة واحدة..وسيارة هنا تجري وتصدم.. وأخرى يقطر منها الدم. ويا أيتها الحرية المبجلة..لكِ البهاء والرجاء..لكِ الأوقات والأزمان المقبلة. sherif.kandil@al-madina.com
مشاركة :