إذا رأيت أحدًا يتخذ موقفًا من أمريكا بصورة (تعميمية) سواء مع أو ضد، فهو لا يعرف أمريكا مطلقًا، وإنما يسمع بها، لا يعرفها لأن أمريكا ليست (كيانًا) واحدًا حتى نأخذ رأيًا حديًا تجاهها، هي مكونات لا حصر لها، هي رؤى مختلفة، هي خليط من الخير والشر، هي متقدمة ومتخلفة في آن، هي ديكتاتوريه وديمقراطية في وقت واحد. وفي المجال السياسي يثبت الحزبان: الجمهوري والديمقراطي أن أمريكا ليست كيانًا واحدًا لا يتغير، وإنما يختلف بمجرد أن يحكم أحد الحزبين فترى وجهًا لأمريكا لا تراه حينما يؤول الحكم للجمهوريين أو للديمقراطيين، الذي يقول: الموت لأمريكا في حكم الجمهوريين، يمكن أن يقول: أموت في أمريكا عندما يحكم الديمقراطيون. في العقد الأخير تجلى للعالم الوجوه المختلفة لأمريكا، بمجرد أن يختلف الحزب الحاكم، فما يفعله الجمهوريون في العالم يختلف عمّا يفعله الديمقراطيون، وما يريده أوباما يختلف عمّا يريده ترامب، ويتغير المزاج العالمي بتغير الحزب الحاكم في أمريكا، كدلالة على قوتها إذا أخذناه من منطلق دولي، وكدلالة على (تفشي الصراع الداخلي) إذا أخذناه من منطلق انتخابي. تكاد تكون (القيم الأمريكية) العليا بعيدة عن الصراعات، فهي التي يتغنى بها مرشحو الرئاسة على مر العصور من الحزبين، وتكاد تكون هي الخيط الرفيع الذي يجمع كلمة الأمريكيين حتى هذه اللحظة، فالأمن القومي على سبيل المثال، لا يختلف عليه أوباما ولا ترامب، ولا بوش ولا كلينتون، ولكن المسائل النفعية محليًا وعالميًا بدا الخلاف فيها واضحًا بين الحزبين وانكشفت الصفقات الخفية. الخلاف بين الحزبين تجلى وانكشف للعالم، هناك من يريد أن يضع لإيران حقًا في الوجود بمبررات معينة، وهناك من يريد لجمها لمبررات أخرى، وتبقى الصراعات (النفعية) بين الحزبين هي الأهم، فالشرق الأوسط لا يعني شيئًا لأمريكا بقدر ما يعني مادة نفعية تعزز قدرات أحد الحزبين، في حين يبقى (الأمن القومي) حاضرًا لديهم جميعًا إذا شعروا أن أمريكا في خطر. في الانتخابات الأخيرة لا يخلو خطاب هيلاري كلينتون من جملة (القيم الأمريكية) بصوة جعلت من خطابها (مثاليًا)، في حين ترامب قال: سأبني سورًا بين أمريكا والمكسيك لمنع الهجرة غير النظامية، بصورة جعلت منه خطابًا (واقعيًا)، لهذا انتصرت الواقعية على المثالية، وهذه لفتة جزئية تدل على أن أمريكا ليست كيانًا واحدًا لا يتغير، أما إذا حاولنا أن نشاهد المكونات الخفية لهذا الكيان، فإن ثمة أيدي تتصارع في الخفاء على مناطق النفوذ في العالم، فكل منها يجمع المنفعة لحزبه ويتقوى بها على الآخر، في حين تبتعد أمريكا عن (القيم الأمريكية) التي أذهلت العالم، وتتخبط في صراعات حزبية تشبه صراعات العالم الثالث، ولأول مرة في تاريخ أمريكا يأتي تهديد الأمن القومي من الداخل.
مشاركة :