في قاموس الحياة هنالك أعاجيب وعجائب، وفي تفاصيل النفس الإنسانية تكمن الحكمة الإلهية، ولكل إنسان نفسه وداخله وذاته المتعلقة بالحواس المعلقة بروحه.. قبل عقود مضت لم يكن هنالك دورات تنمية بشرية، ولم تكن هنالك مصحات نفسية وعيادات للعلاج، بل كانت الحياة تسير وفق منظومة فطرية بشكل أساسي، وكان أحد جيران الحي أو القرية أو المطوع الذي يعتبر المتعلم الوحيد أو شيخ القبيلة هو الشرطي والقاضي والمصلح والمدرب وحتى الطبيب النفسي أحياناً. لم يكن المرضى العقليون هائمين في الشوارع، بل في منازل ذويهم يخضعون لجلسات النقاء وجرعات الوفاء فيتحسنون ذاتياً، وكانت الحياة ورغم صعوبات الطقس والسفر والترحال تسير وفق الفلاح والنجاح.. امتد الزمن فتغيرت البوصلة، ارتفع معدل الأمراض وزادت مساحات الشقاء والعناء في المحيط البشري، أصبح في كل حي راقٍ شرعي بعضهم يملكون شيئاً من العلم وآخرون يتعلمون في البشر ونوع يتاجر بصحة المرضى، وباتت العيادات النفسية مليئة بالحالات، وأصبح هنالك عاطلون، وارتفعت معدلات العنف والطلاق والقسوة وحتى الفقر رغم الموارد والوظائف وسبل العيش المتاحة. عقدت مئات المؤتمرات وورش العمل وستظل لرصد هذه الظواهر ومتابعتها وسبر أغوارها والخوض في غمارها وأعماقها أملاً في التخفيف أولاً ومن ثم السير بمسارات إحصائية منخفضة، ولكن النتائج متأرجحة والظواهر الإنسانية لا تزال. خرج إلينا الفكر الضال والأفكار الموبوءة بالضلال ولم تعد هنالك روية واضحة عمَّا قد يخرج إلينا من السلوكيات والظواهر في هيئة فاجعة أو فجائية، تشتت كل التوقعات وتستحل علينا جزءاً من واقعنا الإنساني. الأمر ومن عمق تحليلي يخص تغير الإنسان وتحول ذاته إلى صيد سهل ومتاح للمتغيرات الحياتية فيعيش في عزلة عن ذاته الفطرية أو تلك التي تتاح لأن تكون قابلة للشكيل والتعديل، غابت هوية «الإنسان» بشكل بائس عن استثمار ذاته وأصبح يقلب كفيه على ما وقع فيه أو تورط بشأنه وباتت النفس شاشة تتحكم بها أدوات التغيير فتنقلها من حال إلى حال وغابت من معالم الحياة الكثير من الأمور التي كانت ذات يوم من المسلمات وجزءاً من المعطيات التي كان الأجدر أن تستغل بشكل حيوي وتوظف بطريقة تواءم متغيرات الحياة، فأصبح المتغيرات تنقل الذات الحقيقية إلى حيث الأخطاء ونحو الأهواء فتحولت إلى متغير يوجه بشكل خاطئ لا يملك الإنسان تثبيته أو التحكم فيه بسبب غياب التفكير العقلاني، ولى تجاهل عنصر من أهم عناصر صناعة الأمان النفسي والأمن الاجتماعي والنجاح وهو استثمار الذات، فالأولى أن يستثمر الإنسان ذاته لا أن تظل استثماراً باهتاً لمتغيرات تصنع الأخطاء، والأمر يعمم على الكثير من مناحي الحياة، يسأل البشر لماذا تغير الناس، لماذا غابت الصفات الحسنة، كيف اختفت العديد من سمات الجار والصديق والرفيق، أين الجهات المسؤولة من تزايد معدلات الجريمة، ومن المسؤول عن تنامي الظواهر رغم العقوبات ووجود اللوائح والمؤتمرات والدراسات والأبحاث؟! وهنا أجيب أن المشكلة تكمن في تغييب الناس أنفسهم للسمات المرتبطة بالذوات والتي كانت إلى زمن قريب من الأمور التي تورث وتعد إرثاً إنسانياً جميلاً، وباتت اليوم من الأمور النادرة بل ويصفق لها ويكرم صاحبها في زمن طغت فيه المصالح الشخصية الدخيلة على الملامح الإنسانية الأصيلة وتعددت الأمراض النفسية وزادت الأوجاع وتفاقمت حالات الضيق والكرب حتى أن بعضها بات مجهول المصدر، غاب الإنسان في العديد من هويات النفس وحضرت المتغيرات فتغيب استثمار الذات في توجيهها نحو الفلاح والكفاح وإلى حيث يفترض أن تكون ذات تشارك الآخرين تتشارك مع المعطيات تلغي النرجسية تشيع التعاون وتعزز التعاضد وتكافح الصراع الداخلي وتكون مصدراً للعلاج والجمال وصناعة الحياة.
مشاركة :