الرأي الشائع، أن أثينا في اليونان كانت أول من أقام ومارس الديمقراطية. غير أن الاكتشافات التي جرت في سومر منذ الأربعينات أظهرت أن التجربة الأولى للحكم الديمقراطي قد جرت في جنوب العراق قبل نحو ستة آلاف سنة. يروي الآن فريق من العلماء، كثوركد جيكوبسن وجورج روكس والآثاري التشيكوسلوفاكي بيتر شرفات، أن السومريين اعتمدوا في إدارة دويلاتهم على مجلسين منتخبين؛ الأول مجلس شيوخ والثاني مجلس عوام يضم كل من يتم تجنيدهم للحرب. وكانت كل المقررات المهمة للدولة، ولا سيما إعلان الحرب، تقتضي الحصول على موافقة المجلسين. أكد بيتر شرفات أن الاقتصاد السومري كان منظما تنظيما اشتراكيا. فكل الأراضي الزراعية كانت عمليا مؤممة، ملك المعبد (السلطة) الذي يقوم بتنظيمها وتوزيع منتجاتها على الشعب. يوافق على ذلك جورج روكس في كتابه «العراق القديم»، ولكنه يصفها بأنها كانت نوعا من الديمقراطية الاشتراكية التي سماها الاشتراكية الكهنوتية، نظرا لأن المعبد كان هو المسؤول عن تنظيم دقيق للأعمال، مما يمكن أن نعتبره نوعا من البيروقراطية؛ كذا من العمال من يقوم بصيد سمك الشبوط وكذا منهم من يقوم بصيد السمك البني وكذا من يتفرغ لصيد البط... وهكذا. وعليهم أن يقدموا إنتاجهم للمعبد الذي يتولى تقسيم الناتج على العاملين. تميزت سومر بالكثير من الأسبقيات: أول من اخترع العجلة، أول من توصل للحروف الأبجدية، أول من وضع مبادئ الحساب، ويمكننا الآن أن نضيف للقائمة أول من مارس الحكم الديمقراطي الاشتراكي، ومن مقتضياته القضاء والقانون. كانت سومر أول من أقام النظام القضائي. الألواح المسمارية التي عثروا عليها في الحفريات ضمت وثائق كثيرة من حيثيات الدعاوى، منها واحدة عن محاكمة أول جريمة قتل تسجل في التاريخ. الجدير بالذكر أيضا أن المرأة حظيت بمكانة مرموقة وتمتعت بحقوق مهمة في المجتمع السومري من حيث السلطة واتخاذ القرارات. بيد أن تفاصيل كل هذا وما سواه مما ذكرته يخرج عن نطاق هذه الزاوية القصيرة. بيد أنني تقصدت التنويه إليه لخطورة الموضوع ولتجاهله من قبل الكتّاب والباحثين. ولكن الموضوع يطرح هذا السؤال: لماذا لم تستمر الديمقراطية السومرية وتتطور وتنتشر في المنطقة؟ ولماذا نسيها التاريخ كليا؟ علينا أن نتذكر أنها ظهرت في الألف الرابع قبل الميلاد، أي قبل أثينا بنحو ثلاثة آلاف سنة، وفي مستهل التاريخ، حيث كانت كل فعاليات الإنسان في مراحلها البدائية والتجريبية، مما حمل البعض على تسميتها بالديمقراطية البدائية. كما أنها لم تستقر في مكان واحد، كما في حالة أثينا، بل تنقلت من مدينة لمدينة فلم تسنح لها الفرصة لتستقر وتتطور. ولم تكن المواصلات متطورة بحيث تتأثر بها بقية الشعوب. فانطوت وغرقت تحت الطمي وأكداس التراب واختفت عن ذاكرة البشرية، على عكس أثينا التي ظهرت في سنين متأخرة ومتطورة ونقشت فيها النصوص على الصخور بالحروف الإغريقية المعروفة فخلدها التاريخ. علما بأن التاريخ السومري ما زال أكثره غير مكتشف بعد. هناك مئات الألواح في المتاحف تنتظر من ينفق على فك أسرارها.
مشاركة :