يفوز فرانسوا فييون لكي لا ينجح اليمين المتطرف في الوصول إلى الرئاسة في فرنسا. هو نفسه كان حاسماً في القول قبل أشهر أن "لا يمين متطرّف في قصر الاليزيه عام 2017"، لكنه لا يضمن مصير القصر بعد ذلك "إذا لم نُحسن توفير الحلول الناجعة لمشاكل فرنسا". يذهب كثيرون إلى المخاطرة في الجزم إلى أن من فاجأ فرنسا الأحد وفاز بانتخابات اليمين والوسط هو نفسه من سيكون رئيس الجمهورية الفرنسية في مايو المقبل. في الفوز الذي حققه فييون انتقام مزدوج داخل العائلة الديغولية. الأول ضد نيقولا ساركوزي الذي مارس رئاسة مفرطة ثقيلة الظل على النحو الذي أحال فييون، رئيس الوزراء حينها، ظلاً لا أصلاً، وجعل من منصب رئاسة الحكومة وظيفة ملحقة داخل ردهات الاليزيه. الثاني ضد فرانسوا كوبيه الذي انتزع من فييون بطريقة ملتبسة مشكوك بها رئاسة الحزب الديغولي، فحملت انتخابات الأحد فييون إلى الصدارة ورمت بكوبيه إلى آخر مركز بين المتسابقين بنسبة لم تتجاوز 0.3 بالمئة من أصوات المقترعين. يفوز فييون في تمهيد الأحد الماضي والأغلب في تمهيد الأحد المقبل والأرجح بالرئاسة الفرنسية في الربيع المقبل، مستفيداً من عوامل عدة. تغلّب فييون على آلان جوبيه، رئيس وزراء فرنسا في عهد الرئيس جاك شيراك، بسبب ما يمثّله جوبيه من وسطية معتدلة مفرطة لم تعد قابلة للتسويق في مواسم ترامب والبريكست. ثم أن سنّ جوبيه (71 عاما) الذي قد يرمز للحكمة والخبرة لم يعد عاملاً مساعداً في زمن بات الناخب يحتاج فيه إلى مرشح قوي في الشكل والمضمون. وأطاح فييون بنيقولا ساركوزي المثقل بتركة رئاسية مثيرة للجدل وبتجربة عجزت عن التجديد لنفسها لولاية ثانية. ثم أن ساركوزي الرجل القوي داخل صفوف اليمين تلاحقه ملفات الفساد الملتبسة، كما دوره في حرب ليبيا وعلاقاته المالية المشبوهة مع نظام معمر القذافي. حتى أن فييون نفسه غمز من قناة ساركوزي قبل أشهر بالقول: "هل تتخيلون الجنرال شارل ديغول رهن التحقيق؟" اختار ناخبو الأحد الرجل الأكثر نقاء والذي لا تلاحقه الملفات والرجل الأكثر صلابة في خطابه اليميني. كشفت انتخابات الأحد، التي لم تقتصر على ناخبي اليمين والوسط بل فُتحت أمام ناخبي اليسار أيضا (650 الف من اصل حوال 4 ملايين مقترع)، عن مزاج شبيه بذلك الذي أتى بدونالد ترامب في الولايات المتحدة، من حيث الحاجة إلى قول الأمور على حقيقتها وتحديد المشكلات دون مواربة واقتراح الحلول دون رمادية وأنصاف حلول. لم يذهب فييون مذهب ترامب في شعبويته حتى لا يتقاطع مع الميادين التي ينزع لها تاريخياً اليمين المتطرّف الفرنسي. وإذا لم تبرز مفاجآت أخرى، فإن انتخابات الأحد الماضي التمهيدية هي إعلان صريح لفوز فرانسوا فييون بالرئاسة الفرنسية ولو بشكل مبكر. هكذا تجمع التحليلات في باريس، حتى في أوساط اليسار نفسه. لا يمثّل الرئيس فرانسوا هولاند تحدياً لمرشح اليمين إذا ما عزم هولاند على إعلان ترشّحه للرئاسة في ديسمبر المقبل. يسجل هولاند حاليا رقماً قياسيا في نسب رؤوساء الجمهورية الفرنسية الأقل شعبية في تاريخ الجمهورية الخامسة، وبالتالي لا تعويل على ترشّحه لولاية رئاسية ثانية. ولا يبدو أن البدائل الاشتراكية أو اليسارية المطروحة تمثّل تحدياً ناجعاً يمكنه مواجهة تسونامي فييون. في ذلك يعترف الوسط اليساري أن المزاج الفرنسي العام يميني الهوى وأن اقتراع الأحد الماضي عُدّ "ثورة يمينية محافظة" على حد تعبير أحد المراجع اليسارية تحتاج لـ "ثورة يسارية مضادة"، على حد قوله، وهو أمر لا يعدو كونه من التمنيات أكثر من كونه قابل للانجاز. لكن ذلك اليميني الصلب الشاب الوسيم المندفع نحو الاليزيه يعيد تصويب النقاش وفق معايير لم يعهدها اليمين. يعتبر الرجل أن لبّ مشاكل فرنسا يتعلق بالبطالة وليس بمسائل الهوية. يُخرج الرجل النقاش من رتابة مسائل الهجرة واللجوء والأجانب ويصوّبه نحو ديناميات رفع النمو وانقاذ الانتاج وخلق فرص العمل. في برنامجه صرامة في ضغط النفقات العامة وحدة في إصلاح ضرائبي لصالح المنشآت والشركات ومنتجي فرص العمل. لا يبتعد عن محاكاة قضايا المهاجرين ويقترب في معالجاته من تلك التي قد تطرحها مارين لوبن زعيمة حزب الجبهة الوطنية، بما يجعله حاصداً لأصوات تصبّ عادة لصالحها وصالح حزبها. لكن خطابه يبقى مشدوداً نحو الوسط والقيّم الديغولية المضادة لأي شطط عنصري. يقترب فرانسوا فييون من خطاب دونالد ترامب في السياسة الخارجية. العدو الأول هو تنظيم داعش، مع ما يتواكب مع تلك الأولوية من تحالف مع أي طرف (بما في ذلك نظام الأسد في دمشق) للقضاء على الآفة الإرهابية. ثم أن في خطاب فييون حيال روسيا شيء من الترامبية من حيث ضرورة الاتفاق مع روسيا بوتين لا الانجرار نحو مواجهة معها. بيد أن خطاب السياسة الخارجية للمرشح اليميني يبقى هامشياً في تقرير وجهة الناخبين وتحديد مزاجهم، ليس فقط لأن الهمّ الاقتصادي الداخلي يبقى طاغيا على ما عداه، بل لأن الدور الفرنسي في العالم يبقى ثانوياً إذا ما قورن بذلك الأميركي الذي تحدد وجهته وجهة العالم الغربي في العالم. يبقى أن صعود نجم فرانسوا فييون المفاجئ يعد خبراً سيئا جداً لزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن. فالسيدة التي وجدت نفسها الرئيسة "الطبيعية" لفرنسا بعد ترامب والبريكست، بات الفرنسيون يعتبرون هذا الاحتمال "غير طبيعي" في زمن فييون. يسرق الأخير حلم لوبن، أو يؤجّله إلى حين، ويعيد صعوده ترتيب البيت الفرنسي الذي لم يعد يحتمل حكمة جوبيه أو حذاقة ساركوزي أو رتابة هولاند. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :