على مدى أكثر من أربعين سنة، سيطر الثنائي الكبير طلال مداح ومحمد عبده على الصفحات الفنية القليلة المتواجدة في الصحف السعودية، وذلك على حساب أعداد كبيرة من نجوم الفن المتوزعين في بقية مناطق المملكة والذين تم تجاهلهم واستبعادهم إعلامياً، حتى بدا للمتابع حينها أنه لا وجود لحراك فني في السعودية ولا وجود للفنانين سوى طلال مداح ومحمد عبده. وكان أكبر المظلومين نجوم الأغنية في المنطقة الوسطى مثل فهد بن سعيد وسلامة العبدالله وسعد جمعة وغيرهم ممن كان لهم انتشار كبير بين الناس لكن من دون أن يكون لانتشارهم هذا أي صدى في وسائل الإعلام المحلية. ظهرت أولى الصفحات الفنية قبل أكثر من أربعة عقود في المنطقة الغربية، وكان المشرفون عليها في الغالب من الأشقاء العرب الذين لم يكونوا على اطلاع كافٍ بما يجري من حراك فني في بقية مناطق المملكة، وكان تركيزهم محصوراً على البيئة التي يتواجدون فيها، جدة والطائف تحديداً، متناسين دور الفنانين في المنطقة الوسطى أو أي منطقة أخرى. وكان على أي فنان يرغب في التواجد الإعلامي أن يذهب إلى جدة لينال مباركة الصحفيين الفنيين هناك، وقد انتبه الفنان الراحل سعد إبراهيم لهذه المعضلة مبكراً وانتقل من الرياض إلى المنطقة الغربية ليحقق نجاحاً ملفتاً وأصبح منافساً لطلال مداح، ومن ثم عاد إلى الرياض ليتم نسيانه تماماً وكأنه لم يكن. وقد أدى هذا التهميش إلى تصوير مدينة جدة كأنها المدينة السعودية الوحيدة التي تقبل الفن وترحب به بينما بقية المدن طاردة للفنون ولا يوجد أي حراك غنائي إلا فيها، وهذا ينافي الواقع المعاش في بقية المدن السعودية. التنافس بين القطبين الكبيرين ظلم بقية النجوم الحركة الفنية في المنطقة الوسطى كانت نشطة منذ انطلاقتها منتصف الخمسينيات الميلادية، بدأ الرواد المؤسسون بالعزف على آلة السمسمية قبل أن يتعرفوا على آلة العود، وكان إبراهيم بن سبعان وصليح الفرج وأبو سعود الحمادي من أوائل من مارسوا العزف الموسيقي على آلة العود التي كانت مجرد جالون حينها، بينما كان الفنان سالم الحويل يعزف على عود حقيقي اشتراه من بحار كويتي في الظهران. حينها كان المجتمع متقبلاً للفنانين وليس لديه موقف ضدهم، وما رواه الفنان الراحل فهد بن سعيد خير دليل على هذا القبول عندما كشف أنه سمع العود لأول مرة في منزل شخص كان يعمل كداداً للنخل، إلى جانب حديث الفنان عبدالله السلوم الذي عاصر كل المراحل والنقلات الفنية في الرياض، والذي قال إن والده هو استبدل السمسمية بآلة العود. من ينظر بعين منصفة للحراك الفني في المنطقة الوسطى سيجد نشاطاً كبيراً، ليس فقط في عدد الفنانين ولا عدد الجمهور الكبير المتفاعل معهم، بل أيضاً بسوق الآلات الموسيقية التي بدأت منذ وقت مبكر إلى جانب دكاكين بيع الأسطوانات التي كانت تحقق أرباحاً عالية. كان الحراك اجتماعياً قبل أن يكون فنياً، وفي هذا الفضاء الاجتماعي ظهر نجوم كبار مثل بشير حمد شنان محمد بن حسين وعايد عبدلله وعدد كبير من المبدعين الذين يؤكدون أن هذه المنطقة لم تكن طاردة للفنون في يوم من الأيام. قال الفنان عبدالله بن نصار رحمه الله: كنت في بداية الستينيات أسكن غرفة في أزقة الديرة وقريبة جداً من سوق الأسطوانات الملاصق للجامع الكبير، كان بعضهم يأتي ليتعلم العزف على يدَّيَ، منهم حجاب بن نحيت، الذي جاء من القصيم، وعزفت معه ولحنت له أغنية يا بو انا. وقال الراحل سالم الحويل: كان الناس يفرحون إذا شاهدوا عازفاً أو فناناً يمشي في حارتهم متجهاً إلى الاذاعة، كانت السيارات قليلة والمشوار نعتبره قريباً، نمشي ونمشي ولا نمل حتى نصل!. دون أن يأتي أحد ويعكر صفونا. وهذه دلائل على واقع تلك الأيام. هذا النشاط لم يكن له أثر في الإعلام، وكان الحضور مقصوراً على طلال مداح ومحمد عبده، حتى أن كثيراً من فناني جدة ظلموا أيضاً بسبب هذه الثنائية، فغاب ذكر محمد عمر وعلي عبدالكريم وطلال سلامة لصالح القطبين الكبيرين وكأنه لا يوجد سواهما في المشهد الفني السعودي. وهذا ليس ذنب طلال ومحمد بالطبع، إنما هو ذنب الإعلام في ذلك الوقت والذي لم يكن مواكباً للحراك الحقيقي على أرض الواقع. عانى الفنانون في المنطقة الوسطى تهميشاً كبيراً منذ بدايتهم، حتى أن مسرح الإذاعة والتلفزيون كان لا يستفيد منهم حتى وهو يذاع من داخل الرياض، قلة قليلة ظهرت فيه وبشكل لا يعبر عن حجم نجوميتهم. وفنان مثل سالم الحويل الذي بيعت أسطواناته بكميات كبيرة، وسلامة العبدالله، وحمد الطيار، نادراً ما تتم استضافتهم في المسارح ووسائل الإعلام، وبسبب هذا التهميش تم تكريس الازدراء من الفن الشعبي ونجومه بحيث أصبح وجودهم في وسائل الإعلام غريباً. وقد أدى ذلك إلى انسحاب كثير من الأسماء المبدعة بعد شعورها بالغبن والتهميش وعدم التقدير، ويتجلى ذلك في رد الفنان المعتزل عبدالعزيز الراشد علينا عندما أردنا إجراء حوار توثيقي معه: بعد كل هذا المشوار، تتصلون علي، أين أنتم عندما كنت أغني؟ لماذا لم تنصفونا على أقل تقدير. إن المتابع المنصف للحركة الفنية السعودية سيجد في كل منطقة من مناطق المملكة حراكاً فنياً مميزاً، من الشمال إلى الجنوب، مروراً بالمنطقة الوسطى والشرقية. فنانون من كل مدينة نثروا إبداعاتهم وأثبتوا أن المملكة بكل أجزائها تعتبر بيئة مرحبة بالفنون وفيها نشاط كبير وجمهور محب، ولم تكن مدينة جدة وحيدة في احتفائها بالفن وأهله، لكن ثنائية طلال ومحمد التي سارت عليها وسائل الإعلام السعودية لأكثر من أربعين سنة، هي التي صورت الحال على غير حقيقته وكرست حقيقة خاطئة مفادها أن الفن لا يوجد سوى في جدة وأن بقية المناطق طاردة للفنون. محمد عبده سلامة العبدالله فهد بن سعيد
مشاركة :