يشغل الفضاء المكاني بوصفه حاضنًا للوجود الإنساني حيزًا من اهتمام المجتمعات المتحضّرة، لما له من أهميّة في تحديد مدى وعي الأمم بمفهوم الجمال الذي يُعد مؤشرًا على أنماط تفكير الأفراد تجاه الحياة التي يحيونها من جانب، وانعكاس المكان على هويّتهم وأمزجتهم وحالاتهم الوجدانية من جانب آخر. الفضاءات المكانيّة تظل مساحة جرداء خالية من القيمة والدلالة، ما لم تحفل بالجمال الذي يبثّ داخل دهاليزها المقفرة الحياة، الإنسان هو الآخر يتخذ من الجمال المكاني مساحة للتعبير عما يكنه من جمال ثاوٍ في عقله وجسده، لذا يرتبط الجمال بالمكان كسمة إبداعية لا تختلف عن أي مقطوعة موسيقية خالدة أو قصيدة شعرية رومانسية، أو رواية أسطورية، جميعها تحمل بُعدًا إبداعيًا يشعر الإنسان إزاءه بالنشوة، ويتلمّس بوساطته قيمته الوجودية وجوهره الإنساني. الفيلسوف غاستون باشلار من أوائل من وضعوا المكان موضع الدراسة في مؤلفه الشهير «جماليّات المكان»، رافضًا النظر للأمكنة بوصفها أشكالاً هندسيّة فحسب، بل تحمل أيضًا قيمة الإنسان وذاكرته، متخذاً من الحنين إلى بيت الطفولة مؤشرًا على ما تتضمنه الأمكنة من روح وحياة تظل ملازمة للإنسان، ليضيف بذلك قيمة أخرى للمكان تتمثل في احتوائها لمفهوم الأمان والحماية، وهي قيمة رئيسة تؤسس الاستقرار النفسي للفرد وتمنحه القدرة على التعايش مع العالم الخارجي. وفي سيرته الذاتية «بعيدًا ومنذ فترة طويلة»، تحدّث الكاتب الأرجنتيني غييرمو انريكي عن بؤس الحياة المدنيّة بعد أن تسببت في تغيير جغرافيّة المدن باقتلاعها لأشجار الغابات، وعبثها بالأماكن الطبيعيّة التي شكّلت وجدان الشعوب، لتفرض واقعًا مكانيًا جديدًا سلب من الأجيال القديمة ذاكرة الطفولة وأيّام الصبا، حتى لم تَعُد مدنهم ذات دلالة عاطفيّة، وتحوّل معها الإنسان إلى كائن منزوع الإنسانيّة، ومجرد آلة للإنتاج والاستهلاك والتناسل ثم الفناء. قيمة المكان الوجدانيّة لدى الإنسان أسست لمذهب معماري حديث ينطلق من وحي البيئة لتشكيل تصاميمه الهندسيّة، وفي حوار صحافيٍّ معها، قالت المصممة المعمارية العراقية الراحلة زهاء حديد «كل تصميم هو نتيجة دراسة نقوم بها عن تاريخ الموقع والثقافة المحلية»، وظلت تصاميمها المعماريّة وفق هذه الرؤية علامة فارقة تغذي الجوانب الروحيّة لدى الشعوب، ومنها أسست شعبيتها الكبرى بعد أن استوحت تصاميمها من تاريخ الأمم وثقافاتهم لتضع بصمتها في طوكيو وبكين وسيئول وبغداد والرباط والرياض وبلباو وإسطنبول وسنغافورة. المكان سيظل ذاكرة الشعوب وحاضنًا لثقافتهم وتاريخهم وملهمًا لهم في مستقبلهم، وأي تحضّر يهدد جماليّة الأمكنة وخصوصيتها سيواجه رفضاً من الإنسان، الذي يرى بأنّ التغيير في معماريّة مدينته يشكل تحريفًا لهويّته ومسخًا لماضيه وطمسًا لانتمائه وقيمته، لذا سيبقى المكان خالدًا في وجدان الأمم وسمة دالّة على حضارتها وعمارتها للأرض، ومصدرًا لمفاخرها وضامنًا لاستمرار أمجادها.
مشاركة :