وكيف تلذ طعم العيش نفس غدت أترابها تحت التراب ما من شك أن رحيل رفاق الدرب لا تغيب ذكراهم عن البال مدى العمر... ومثل أولئك زملاء المراحل الدراسية النظامية داخل الفصول فإنها ذكريات جميلة تبقى أبد العمر كله، وذلك لطول التفافهم والمكث مع بعضهم مما يقوي أواصر المحبة والتآلف فيما بينهم، فمنهم الزميل الحبيب عبدالرحمن بن عبدالعزيز السالم الذي ولد بمدينة شقراء في أواسط الخمسينات الهجرية، وعاش بها مع أقرانه ولِدّاته حتى أكمل المرحلة الابتدائية بالمدرسة السعودية، ثم انتقل إلى دار التوحيد بالطائف، فأنس بتلك الأجواء أجواء مرح ونشاط، فالمدرسة مثل الأم الرؤم تحتضن صغارها، وتُوجِّه كبارها التوجيه الأمثل كي يكونوا لبنة صالحة في بناء وطنهم واحترام أبناء مجتمعهم ومعلميهم، وهذا ما قد حصل في الزمان الأول بين طلاب مدرسة دار التوحيد بالطائف، أُولى المدارس التي تُعنى مناهجها بالعلوم الشرعية، وباللغة العربية وآدابها، فمن صفات طلابها التآلف والتواد والجد والمثابرة في التحصيل العلمي والأدبي التي أمر جلالة الملك عبدالعزيز بتأسيسها عام 1364هـ -طيب الله ثراه- وجلب لها نخبة من كبار المعلمين من فطاحل علماء الأزهر من جمهورية مصر العربية، ومن بعض علماء الشام مثل الشيخ بهجة البيطار لتنوير وتثقيف الدارسين بتلك الدار المباركة، وعندما قدمتُ من حريملاء مهوى رأسي في بداية عام 1371هـ للدراسة بالدار هناك سعدتُ بمعرفة الكثير من الزملاء وفي طليعتهم عبدالرحمن بن عبدالله العبدان وشقيقه سليمان، وحمد بن إبراهيم السلوم، وعبدالعزيز بن إبراهيم الشايع وعبدالله بن حمد الحقيل، وعبدالعزيز بن عبدالله السحمان، ومحمد بن سعد الحسين، ومحمد بن عبدالرحمن المفدى، ومحمد بن إبراهيم أبو معطي، وعبدالرحمن بن عبدالعزيز السالم المعني بهذا المقال -رحمه الله- وغير هؤلاء الأحبة الذين أصبحوا بمنزلة الإخوة الأشقاء في تآلفهم وتوادهم لقضاء معظم أوقاتهم داخل الفصول الدراسية، (وبالمهجع) سكن الطلبة المغتربين عن أهليهم أمثالنا لتلقي الدراسة بمدينة الطائف وبمكة المكرمة لمن أنهى المرحلة الثانوية بدار التوحيد - رحم الله من مات منهم وبات تحت طيات الثرى، وأسعد الباقي الذين هم على قائمة الانتظار: يا رب أحسنت بدء المسلمين به فتمم الفضل وامنح حسن مختتم وكانت أيام الدراسة بالدار -أم المدارس- تمرُ سراعاً لما يتخللها من أنشطة ثقافية عبر منبر ناديها الأدبي كثير التزاحم على منصاته من خطباء وشعراء، وحضور عدد كبير من المشجعين من رؤساء الدوائر والمصالح الحكومية بالطائف، ومشاركة نخبة من طلاب كلية الشريعة ومن طلاب تحضير البعثات من مكة المكرمة في تلك الحقب الفارطة، وإصدار عدد من الصحف الحائطية وبعض المجلات صغيرة الحجم مثل مجلة الربيع التي يتولى تحريرها عدد من الطلبة النجباء أمثال الزملاء: عبدالعزيز بن إبراهيم الشائع وعبدالرحمن بن عبدالله العبدان، ومحمد بن إبراهيم أبو معطي، ومجلة الصحراء التي يحررها محمد النافع ومحمد السنيدي وحمد الربيع، وتُعد دار التوحيد -آنذاك- بوابة علم وثقافة بالنسبة للقادمين من نجد لعدم انتشار المدارس في ذاك الزمن، وكنا نقضي ساعات فراغنا مع الكثير من الزملاء في مرح ومزاولة بعض الأنشطة الرياضية في ميادين (قروى) مع القيام ببعض الرحلات في جوانب مدينة الطائف فنحيى لياليها بالسمر ومساجلات شعرية لتجديد نشاط كل منا ولتخفيف وحشة الغربة عن أهلينا وعن أوطاننا مهوى رؤوسنا: بلد صحبت به الشبيبة والصبا ولبست ثوب العمر وهو جديد وبعدما استمرت الدراسة بمعهد الرياض العلمي انتقلنا معا، ومع بعض الزملاء عام 1373هـ لمواصلة الدراسة بالمرحلة الثانوية هناك، واستمر التواصل مع -أبي خالد- ومع بعض الزملاء بالفسح بين الحصص وفي منازلهم أحيانا على نطاق محدود لانشغال الكل في استذكار دروسهم، وفي شؤونهم الخاصة الأسرية، حتى أكملنا المرحلة العالية بكليتي الشريعة واللغة العربية عام 1378هـ، ثم افترقنا وكل واحد منا يحمل بين جوانحه أجمل الذكريات وأحلى أيام العمر مع أولئك الزملاء الكرام بعد طول اجتماع: الدهر لاءم بين ألفتنا وكذاك فرق بيننا الدهر وكان -أبو خالد- محبوبا لدى زملائه ومعلميه طيلة حياته الدراسية لما يتصف به من هدوء الطبع وسلامة الصدر ودماثة الخلق، بعد ذلك عُرض عليه العمل في سلك القضاء فاعتذر لعدم رغبته في ذلك تورعاً ثم عين معلما للمواد الدينية في المعهد العلمي بشقراء، وكان مهتماً بطلابه وموجهاً لهم التوجيه الأمثل وفي أثناء عمله أصيب بمرض، فأدخل المستشفى العسكري للقوات المسلحة بالرياض، وعندما علمت بذلك تأثرت كثيراً فبادرت بزيارته قبل الذهاب به إلى إحدى مصحات الولايات المتحدة الأمريكية...، فلما رآني تهلل وجهه فرحا رغم ما كان يكابده من أمراض عدة وهو مبحوح الحلق يتعبه النطق فحاولت تذكيره ببعض المواقف الطريفة معه لإيناسه، وإيقاظ ذاكرته ولكنه أومأ بمقدمة رأسه وكأن لسان حاله في تلك اللحظة المحزنة يقول: ليس لدي الآن متسعا مرددا هذا البيت: لك الله لا توقظ الذكريات وخلي الأسى في الحنايا دفينا فلما رأى ابنه البار الدكتور خالد أن صحته قد تدهورت طلب منه السفر للعلاج بأمريكا فوافق إرضاء لخاطره رغم ما كان يتوقع رحيله إلى الدار الآخرة، وهذا المقال عبارة عن ذكرياتنا الجميلة مع -أبو خالد رحمه الله- التي لا تبرح النفس مدى العمر، والعزاء في ذلك أنه ترك ذكراً حسناً وذرية صالحة نفع الله بهم في خدمة وطنهم وأهلهم، وقد توفي يوم الخميس 25-3-1404هـ بالولايات المتحدة الأمريكية بمدينة نيويورك بعيدا عن أهله ومهوى رأسه - رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. - عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف
مشاركة :