تعيش مصر واقعاً حيَّر المتابعين والمراقبين والمهتمين بالشأن المصري، فأحداث الثلاث سنوات الماضية كافية لتذهب بعقل اللبيب على جميع الأصعدة، سواء السياسية أو الاقتصادية والأمنية وغيرها. ثورة شعبية في 25 يناير/كانون الثاني 2011 ضلت طريقها، فعاجلها انقلاب عسكري دموي أطاح بمكتسباتها من تجربة ديمقراطية وليدة، وقضى على تطلعات أجيال من الشباب في الحرية والديمقراطية، ونسف مطالب الشعب في العيش والكرامة الإنسانية. انقلاب أتى بسلطة عسكرية غاشمة تقبض على مقاليد الحكم في مصر، ولا تثق في المدنيين ولا بطريقة إدارتهم، ولا تريدهم من الأساس -للطبيعة العسكرية ذاتها- ولا تعترف بالأحزاب السياسية ما لم تكن مؤيدة بشدة أو مصنوعة على أعين تلك السلطة؛ لذا ضيقت على السياسيين بالاعتقال، والمطاردة للمخالفين والمعارضين منهم، وحاصرت الأحزاب، وأغلقت المجال العام، ولم يسلم من بطشها المجال الحقوقي أو مؤسسات المجتمع المدني بالعموم. صاحب سيطرة العسكريين على السلطة انهيار اقتصادي غير مسبوق، وفق علاقة طردية - كلما زادت السيطرة زاد الانهيار- قبضة العسكريين على السلطة ومقدرات البلاد جاءت تدريجية عقب الانقلاب العسكري بمساعدة ومشاركة سياسيين ونخب الـ30 من يونيو/حزيران، الذين مثّلوا غطاء سياسياً للانقلاب العسكري وفق دور محدد ومدروس، بعدها خدع العسكر شركاء انقلابه أيضاً -كما خدع غيرهم قبلهم- فقام بإزاحتهم من المشهد، بعدما كان قد سمح لهم بتشكيل حكومة جاء رئيسها حازم الببلاوي من الحزب المصري الديمقراطي، ومحمد البرادعي نائباً للرئيس المؤقت من حزب الدستور، لم تستمر تلك الحكومة إلا شهوراً قليلة، والآن نرى الشركاء السابقين منسحبين يصدرون بيانات وتصريحات فقط. فمنذ أيام خرج علينا محمد البرادعي ببيان يبرئ نفسه فيه من الدماء التي سالت في رابعة العدوية، رغم أنه قبل منصبه بعد مذبحة الحرس الجمهوري، ويحمل المسؤولية للسيسي الذي أصر على فض الاعتصام بالقوة رغم التوصل لحلول سلمية لإنهاء الاعتصام، بحسب بيان البرادعي نفسه. كلام البرادعي هو على سبيل إبراء لذمته من الدماء التي سالت في رابعة، والتي تستوجب المحاسبة ولو بعد حين، وهو رجل قانون يعلم ذلك، ويبرر قبوله لمنصب نائب رئيس الجمهورية، لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات لم يعد التبرير له قيمة ما لم تصحبه شهادة وافية وصادقة عن كل ما شارك فيه الرجل خلال عام الحكم المدني إلى أن ترك منصبه وسافر للخارج، فالمسؤولية الأخلاقية قبل المسؤولية السياسية للمنصب تحتم توضيح الأخطاء التي وقعت، والاعتذار عنها، والسعي لعلاج تبعاتها لا إبراء ذمة لشخص صاحبها فقط. على جانب آخر، وبعد قرارات اقتصادية (تعويم الجنيه - رفع الدعم - غلاء أسعار) تقضي على فتات الطبقات الفقيرة وتسحق ملايين المصريين، نجد بعض من وافق على استمرار شراكته للنظام وأعطى شكلاً انتخابياً لبرلمان العسكر، أعضاء ما يسمى بتكتل 25/30 يخرجون بتصريحات ضد تلك الإجراءات وطلبات لإلغاء تلك القرارات، وهل اتخذت حكومة الدبابة تلك القرارات لتتراجع عنها بطلب أو تصريح من ديكور برلمانهم؟ فعلامَ الاستمرار في شراكة هذا النظام الذي يذبح الفقراء دون رحمة، بياناتكم وتصريحاتكم تأتي لتسجيل موقف لا أكثر، وكثيراً ما فعلتم سابقاً دون جدوى، ولإبراء ذممكم أمام الناس، لكنها لا تكفي ولا تعالج آلام الناس ولا تساعدهم، فماذا يفعل مواطن مطحون بتصريح نائب برلماني؟ الاستقالة ومقاطعة النظام سياسياً أجدى وأنفع لكم -ولكم فقط- لتحافظوا على ما تبقى لكم من أيدولوجياتكم وانتماءاتكم ووطنيتكم ولإنسانيتكم أيضاً؛ لأن استمراركم مشاركة في الجرم حتى لو أنكرتموه وشجبتموه. على عكس السابقين يأتي حال كثير من السياسيين والنخب الذين روجوا للانقلاب، وهو التواري والانسحاب، ولكنهم يفعلون هذا في صمت بعد أن ورطوا مصر في حقبة حكم عسكري لا يعلم مداها إلا الله، الآن سكوتهم وصمتهم جريمة أخرى يرتكبونها، ولا تفيدهم ولا تبرئ ذممهم، والأولى بهم أن يتراجعوا ويعلنوا مقاطعتهم للنظام العسكري المستبد، وهي المحاولة الوحيدة المقبولة منهم الآن. نظام انقلابي قرر قتل ملايين من فقراء هذا البلد، وكل من شارك وعمل مع هذا النظام شريك في جرمه، ولو أنكر وبرأ ذمته. أيها السادة.. إبراء الذمة لا يكفي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :