الحوار مع الناقد فريد أمعضشو يتطلب أكثر من حلقة، فهذا الأديب خبر كتابة الشعر ودروب الأدب، قبل أن يلتحف بصرامة الأكاديمي في إنتاج نصوصه وطروحاته النقدية، التي أغنت الكثير داخل المكتبة المغربية. فريد أمعضشو ناقد متمرس، وهو إلى ذلك أحد من يتملكون أدواتهم المنهجية ويطورونها باستمرار، لهذا تجد أن المتتبعين والمهتمين بإصداراته تتسع رقعتهم يوما بعد آخر. في هذا الحوار يطلعنا صاحب "دراسات في أدب الغرب الإسلامي" و"مسائلة النص الإبداعي العربي" على جانب مهم من اشتغاله، كما يفرد لنا آراءه عن واقع الساحة الثقافية المغربية، ورؤيته هو كناقد لجملة من القضايا والطروحات الأدبية المهمة. •كفاتحة لهذا الحوار، خبِّرنا عن بداياتك مع الكتابة؟ ـ بادئ ذي بدء، لا بد من أتوجه إليك بأجزل الشكر وأخْلَصِه على هذه الدردشة، التي نأمل أن تكون خفيفة، على القارئ الكريم، ومفيدة كذلك. بداياتي مع الكتابة يمكن أن أعود بها إلى أوائل الألفية الجارية. أقصد البداية الفعلية الحقيقية، أما الكتابة دون الالتزام بضوابط أكاديمية منهجية دقيقة؛ أي الكتابة على سبيل الهواية، وتزجية وقت الفراغ، فتعود، بالتأكيد، إلى ما قبل ذلك. لقد كان نَشْري لدراسة عن المنهج السيميائي في مجلة "ضفاف" (2003)، التي توقفت منذ سنوات، والتي كان يديرها أستاذنا الشاعر والناقد د. عبدالرحمن بوعلي، نقطة بداية تجربتي في الكتابة حقا، وبعدها – في غضون سنوات – راكمْتُ مجموعة من الأبحاث والدراسات في مجالات النقد الأدبي، وعلوم التربية، والمجال القانوني، والفكر والترجمة، علاوة على محاولات في الكتابة الإبداعية؛ في الشعر والقصة خاصة، نال بعضها استحسان قرائها؛ فتوّجت بجوائز داخل المغرب وخارجه كذلك. وبطبيعة الحال، فأمْرُ البدايات دائما يكون محفوفا بالزلاّت والهنات، وقد صدق أحدهم حين قال قديما: "البداية مزَلّة"، ولكنْ يتجاوز المرء تلك النقائص، ويطوّر أداءه، ويُجوّد كتابته، بالإنصات إلى الملاحظات النقدية البنّاءة، والعمل بها. أما غير ذلك، فلا يزيد الكاتب إلا تقهقرا، وعيشا في الأوهام، وتماديا في الرداءة، التي تنتعش بوجود أصوات "نقدية" تُجامل وتنافق في إبداء رأيها، دون أن تقرأ المكتوب حتى، في بعض الأحايين. •هل لك طقوس خاصة في الكتابة؟ ـ مسألة الطقوسية في الكتابة ليست بالموضوع الجديد علينا؛ فقد وصلتنا من التراث الأدبي حكايات عديدة عن طقوس مجموعة من الكتاب والمبدعين، يتسم بعضُها بغير قليل من الغرابة والطرافة؛ فتجد أن منهم من كان يدخل محرابه ليُبدِع وقتَ السحر؛ وقتَ يعمّ السكون والهدوء التام المكانَ، ومنهم من كان يقصد الخلوات معتزلا الناس، ومنهم من كان يأتي بسلوكات غريبة جدا؛ كأن يتمرغ في التراب، أو يُلقي بنفسه من مكان عال. وكانوا يعتقدون – كما تروي الميثولوجيا – بـ ”شياطين الشعر”، وبأنّ وراء كل مبدع جنّيّاً يُلْهمه قول الشعر على البديهة والسجيّة، وغير ذلك من الطقوس، التي تحضر في ثقافات أخرى كذلك طبعا. وأعتقد أن لكل كاتب طقوسَه الخاصة في الكتابة. وبالنسبة إليّ، فأنا أحتاج، عادة، لدى إرادة كتابة شيء، إلى أن أكون مستعدا له، فكريا ونفسيا؛ بحيث يلزم أن يقرأ الكاتب كثيرا ليكتب قليلا، وينبغي الاطلاع على كمّ مهمّ مما ألِّف في الموضوع لأخذ فكرة وافية، قبل العَمْد إلى الكتابة فيه؛ تفاديا لإهدار جهدٍ مُضْنٍ في قضايا أثير فيها نقاش مستفيض، وخلَصَ الدارسون فيها إلى خلاصات ذات قيمة تجعلها أحقّ بالاعتماد. كما ذلك الاطلاع يجعل الباحث/ الكاتب على بيّنة من مختلف الأقوال والآراء التي قيلت في الموضوع ليرى ما إذا كان سيُجاري رأيا سبق في مسألة ما، أو يعارضه، أو يتخذ موقفا آخر منها. ثم إني أحتاج، غالبا، إلى الهدوء، وإلى أن يكون أمامي مشروب ساخن، علاوة على موسيقى هادئة – أحيانا كذلك -؛ ولذا أفضل، حين أعتزم الكتابة، أن آوي إلى مكتبتي ليلا، بعد أن يخلد الجميع للنوم؛ لأن ذلك يتيح التركيز، والتعمق في التناول، وعدم وجود ما يقطع عليك ذلك الانغماس الكلي في الذي أنت بصدده، وهذا يقتضي، بالضرورة، أن تُريح ذاتك نهارا بالقدر الكافي. لذا، يشبّهني بعض الأحبّة والمقرّبين، أحيانا، بـ ”الكائن الليلي”، الذي يَسْلك في حياته مسلكا مخالفا لِمَا عليه الطبيعة الإنسانية! ولكنها الحقيقة .. وقليلا ما أكتب شيئا في النهار، اللهم إذا كانت كتابة لا تحتاج تركيزا كبيرا. •عندما تكتب نصا جديدا، هل تضع للقارئ اعتبارا؟ أقصد: هل تمارس نوعا من الرقابة الذاتية على كتابتك تلك؟ ـ لعل الرأسمال الحقيقي لكل كاتب هو القارئ؛ لذا يلزمه الحرص على عدم تضييعه؛ وذلك بأنْ يقدّم له ما يفيد ويمتع، ويرْأف به من الرداءة المُسْتَشْرية في كتابات اليوم، ويحترم ذكاءه، ويراعي مشاعره، ويتجنب صَدْم أفق انتظاره، مع الابتعاد عن كل ما من شأنه أن يزعزع ثقته في الثوابت التي عليها الإجماع. ومما يُؤسَف له حقا أن تجد كاتبا يكتب اليومَ شيئا يخدش به شعورا أو غيره، بتهوّر أو دون أن يحْسب له حسابه جيّدا، وتراه غداً يكتب خطابا يتبرّأ فيه ممّا كتب في الوقت الفلاني، أو يعبّر عن أسفه وندمه ممّا خطت يداه في مرحلة المراهقة ونزقية الشباب. وفي هكذا مقام، أقول إن الكاتب يجب أن يكتب بمسؤولية، وأن يتفادى نشر أي مادة لم يقتنع بها تمامَ الاقتناع، وأن يعرف جيدا أنه يكتب للقارئ، الذي قد يحاسبه ويعاقبه بأن يعزف بالمَرّة عن قراءة أي نص ينشره في حال فقْده الثقةَ في ما يكتبه. أنا شخصيا أكتب مستحضرا على الدوام طَرَفَ المتلقي، بوصف فاعلية التلقي مما لا يكتمل الفعل الكتابي إلا به؛ فأحرص، ما أمكن، على أن أقدّم كتابةً تنطوي على أقصى ما أستطيع من الجِدّة والعمق والنفع. كتابةً تراعي المتلقي، وتحترم ذكاءه ومؤهلاته القرائية، ولا تتهجم على أحد، بقدر ما تناقش الأفكار والتصورات، في منأىً عن أي شخصنة بعيدة عن العِلْمية والموضوعية. كل هذا يستوجب من الكاتب أن يمارس ضرورةً، وباستمرار، رقابة على ما يكتبه، قبل أن ينشره ويتيح قراءته لعموم الناس، بدءا بضبط نصوصه فكريا ومعرفيا، وانتهاء بتنقيحها لغويا وإملائيا. وبذلك فقط يكسب الكاتب ثقة القارئ، ويضمن استمرار حبل التواصل بينهما. أما الذي يحلو له نشر أي شيء، ولو كان باديَ الرداءة والتسطيح والاجترار، وأحيانا السرقة والسطو من غيره، فهذا – بلا ريب – سَرْعان ما يَفقد ثقة القراء، ويُنَمَّط إنتاجُه، وهذا أقسى ما يمكن أن يتعرض إليه الكاتب؛ فتجد القارئ بمجرد ما يُبْصر أنّ العمل لفلان لنْ يُكلّف نفسه ولو عناء فتْحِه، فما بالك بقراءته ومحاورته. •ما هي وظيفة الناقد اليوم؟ ـ لا يختلف اثنان في أن تطور الإبداع، والكتابة عامة، متوقف على العملية النقدية؛ فبها يُوجَّه الكاتب، ويرى طريقه لاحبة واضحةً، ويقف على مواطن القوة والضعف في كتاباته. لهذا، فإن وظيفة الناقد – ولاسيما في وقتنا الراهن، الذي تراجع فيه النقد بعض الخُطوات إلى الوراء، ولم يستطع بعْدُ مواكبة الكتابات المنشورة، أو الاقتراب من ذلك على الأقل – تبدو مهمة جدّا وواجبة أكثر من أي وقت مضى. إن الناقد الحقّ مطالَبٌ اليوم بمتابعة ما يُنشر، وتقويم مسيرة الكاتب، ومرافقته باستمرار؛ لتوجيهه إلى ما هو أسلم وأصوب، وإنارة السبيل له ليبدع ويكتب عن بصيرة، متفاديا الهفوات والاختلالات التي اعتاد الوقوع فيها. مثلما أنه مطالب بالتمييز بين الجيد والرديء، السمين والغثّ، في الكتابات المنشورة؛ على غرار ما كان يفعله أسلافه في القرون الأولى مثلا (ابن سلام الجمحي، الآمـدي، حمّاد الراوية، القاضي الجُرْجاني، الأصمعي). ولكنّ الذي يُؤسَف له أن هذا الناقد تخلّف كثيرا عن المبدع والكاتب، فغاب معه – أو بالأحرى: ضعُف وتراجَع – دوره الحاسم في التوجيه والإرشاد والتصويب والتجويد؛ لذا كثر، على أيامنا خصوصاً، الغثّ والرّديء فيما يُنشر، إلى حدّ لا يُتصوّر، شجّعَ على ذلك النقد المجامَلاتي، وسيادة الإخوانيات في الكتابة النقدية؛ الأمرُ الذي كرّس منطق "عين الرضا عن كل عيب كليلة" (كما قال الشاعر قديما). فإذا بك تقرأ نصوصا منشورة تحت يافطة الشعر، ولكنها بعيدة عن الشعر بُعْدَ الشمس عن الأرض، وإذا بك تقرأ ما يُنشر على أنه قصة، ولكنه لا علاقة له بهذا الفن من قريب ولا من بعيد، وهكذا. وهذا كله يُفقد الثقة في المنشورات، ويَجعل الكثيرين يضعون علامات استفهام كبيرة كثيرة على مدى عافية الأدب العربي عموما. طبعا، فهذا الكلام لا يجب أنْ يحجب عنّا أنّ من الكتابات المنشورة ما هو راقٍ وناضج ومميّزٌ، لأسماء من شتى الأجيال والحَسَاسِيّات الإبداعية. •أنتَ من النقاد غزيري الملاحقة لجديد الساحة الثقافية؟ كيف تجدها اليوم؟ وهل تجد أن الحركة النقدية حققت وعدها الذي انبثقت لتحقيقه؟ ـ أشرتُ، قبل قليل، إلى أن ملاحقة جديد الساحة الثقافية من الأدوار الأساسية التي ينبغي أن يضطلع بها نقادنا اليوم؛ فمن خلال ذلك يستطيع هؤلاء معرفة ما يروج داخل الساحة الأدبية والإبداعية، وما يستجدّ فيها من أعمال وكُتاب واتجاهات ومواقف وإكراهات وغيرها. وبناءً على ذلك، يَقيسون درجة ذلك جودة ورداءة، جِدّة واجتراراً، ويقفون على مدى إتيانها بالجديد المبتكر، وبالإضافة النوعية، على صعيد الكتابات الواصفة والتحليلية خصوصا. ومن خلال تجربتي المتواضعة في ممارسة الفعل النقدي الأدبي، أجد أن أدبنا المعاصر يشهد تراكما متزايدا في النصوص المنشورة، ورقيا وإلكترونيا، دون أن يعني ذلك انطباق صفة “الكتابة الأدبية”، ذات الخواصّ والشروط المعروفة لدى المهتمّين بالمجال، على كثير منها، مع تسجيل تخلّفٍ واضح للنقد على المواكبة والمتابَعة، ومع تسجيل أن كثيرا من المنشور على أنه نقد يُسِمه طابع المجاملة، والبعد عن العمق التحليلي، وعدم ملامسته جوهر المقروءات، وعدم اهتدائه إلى كشف جوانبها الجمالية والفنية والتعبيرية الكثيرة. هذا أول ملمح يمكن لأيٍّ منا تسجيله. والأمر الآخَرُ أن الحركة النقدية المتحققة تبرز أن الساحة الأدبية عندنا يختلط فيها الأصيل بغير الأصيل، والجيد بغير الجيد، والناضج بغير الناضج. ويقتحم أسوارَها “الواطئة” كل من هبّ ودبّ، في غياب أي رقابة على الساحة الأدبية، وفي غياب أي استعداد لممارسة الفعل النقدي الحقيقيّ؛ من حيثُ التمكن من آلياته وأدواته، والتمرس الكافي بمجال الأدب، والاطلاع على أكبر ما يمكن من أفانينه، ومن أضْرُب الكتابة. وبناء على ما تقدم ذكره، أرى أن الحركة النقدية عندنا لم تصل بَعْدُ إلى تحقيق رهاناتها وأهدافها الكبرى، ولم توفَّق بَعْدُ إلى بلوغ مطمح تطهير الساحة الثقافية من المتطفلين والمُدّعين. وبالتالي، فالحاجة ماسّة، وبإلحاحٍ، إلى أن تُضاعِف هذه الحركة جهودها، وتكثف مساعيها، وتُعِدّ فاعلين حقيقيين في النقد الأدبي، مؤهّلين للقيام بهذه المهمّة باقتدار وفاعلية. كما أنها مطالَبَة بأنْ تملك الجرأة الكافية لتقول لكاتب، وإن كان اسما مكرَّسا، إن كتابتك ضعيفة إذا كانت كذلك، وتقول لآخر مبتدئ، إذا أصاب في ما كتبه، إن كتابتك موفقة ناضجة؛ لأن الإبداع والكتابة الأدبية لم يكونا يوما حكرا على فئة دون أخرى، ولم يكن معيار الزمن والسبق فيصلا موضوعيا في مجال النقد الأدبي. وبهذا وحده يمكن للحركة النقدية أن تفيَ بما قامت لأجله منذ القدم. •كيف تنظر إلى القصة القصيرة جدا اليوم؟ هل حققت رهانَها؟ وما تريد توضيحه لكُتّابها من الجيل الجديد؟ ـ القصة القصيرة جدا لون سردي جديد على أدبنا المعاصر، تأثرنا فيه – على الأرجح – بالآخَرين، وإنْ كان بعضهم يُتعب نفسه في تلمُّس جذور له في تراث العربية الحكائي الزاخر؛ ليُثبت، في المآل، أن له أصولا في ذاكرة أدب العرب، على غرار ما يفعله باحثون يجتهدون في إرجاع كل ما يستجدّ داخل الساحة الأدبية العالمية من فنون وألوان إبداعية إلى التراث العربي، وكأن هذا الأخير ينطوي على كل أنواع الكلام والتعبير الرمزي، وكأن الأغيار لا جديد أتوْا به في الأدب على الإطلاق! وهذا – في الحقيقة – “مرض” أصيب به بعضهم، وتُعْجبني عبارة وصفهم بها أحد الكتاب المعاصرين، هي “سبقناهم”؛ بمعنى أن أولئك يدافعون عن فكرة أن كل فنّ أدبي مستحدث، برز في الغرب خصوصا، ذو جذور في تراثنا العربي الإسلامي؛ فتجدهم يلتمسون جذور الرواية في حكايا “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنة”، وفي مؤلّف “حي بن يقظان”. ويلتمسون جذور القصة القصيرة في تراث المقامات، وجذور قصيدة النثر في كتابات تعود إلى عهد أحدث؛ مثل كتابات جُبران خليل جبران، وجذور المسرح في مجموعة من الأشكال الفرجوية القديمة. وبخصوص الق الق جدا يحلو لبعضهم أن يرجع بأصولها إلى تراث الخبر والأمثولة والنكتة والطُّرْفة! وقد سجّل المشارقة، في سوريا والعراق، سبقا إلى كتابة هذا اللون القصصي، قبل أن يعرفه المغرب العربي، ويتألق فيه المغاربة، على وجه الخصوص، إبداعا ونقدا وتنظيرا. إن الق الق جدا، في نظري، نوع سردي حديث، لا يرقى لأنْ يُوصَف بَعْدُ بلفظ “الجنس”؛ لأن ذلك يحتاج إلى تراكم أكبر، وإلى زمن أوفر، وإلى نضج أكثر، وإلى فرض الذات في ساحة التدافع الأدبي، لاسيما وأنه – كما نعرف – ما زال يُواجَه بمعارضة شديدة من قبل كثير من الفاعلين في الساحة النقدية العربية، الذين يَرَوْن فيه “سحابة صيف” سَرْعان ما تنقشع! والواقع أن هذا الرأي الذي أتبنّاه عن اقتناع، وبعد تأمل ودراسة للمتحقق من تلك القصة، سُبقتُ إليه بآخرين، وفي مقدمتهم دة. سعاد مسكين، في كتابها عن القصة القصيرة جدا بالمغرب (تصورات ومقاربات)، على أنّ من باحِثِينا مَنْ يدافع بشدّةٍ عنْ أنّ الق الق جدا جنس أدبي قائم الذات والصفات، وفي طليعتهم أستاذي د. جميل حمداوي. وتشترط كتابة هذه القصة حضور مجموعة من الميزات والمقوّمات، التي أفاض نقادها في تبيانها وتفصيل القول فيها، وهي شروط يتعيّن على القاص في هذا المجال ضبطها واستيعابها وتمثلها قبل الانتقال إلى إبداع نصوص في الق الق جدا، وهذه دعوتي إلى كل من يودّ الكتابة، في هذا الإطار، من مبدعي الجيل الجديد. لا مناصَ من إدراك ماهية هذه القصة، وتبيّن الحدود الفارقة بينها وبين مجموعة من الأشكال التعبيرية القريبة منها (قصيدة النثر، الهايكو، الخبر، الأمثولة ..)، والتعمق في شروطها وخصوصياتها وتقنياتها. ولكن -للأسف الشديد – حين نتابع ما يُنتج في هذا اللون الإبداعي نقف على كثرة الغثّ فيه، وعلى عدم ضبط قاصّين كثيرين آليات القص القصير جدا ومقوماته، بل إننا نستطيع التحدث عن حالة من “الإسهال” و”الاستسهال” في مجال كتابة هذا القصّ الوجيز.. وهذا – بلا شكّ – ممّا يسيء إليه، ويُعيقه عن السير قدُماً نحو فرض الذات في الساحة الأدبية العربية المعاصرة، ونحو تحقيق رهانه الذي من أجله يبدع المبدعون فيه. •كناقدٍ ما هي العوائق البنيوية التي تقوم حجر عثرة في وجه إشعاع فعلي للثقافة المغربية؟ وكيف يمكن تجاوزها؟ ـ أوافقك الرأيَ على حاجة الثقافة المغربية إلى عمل إضافي، وإلى تضافر مجهودات جميع الفاعلين في المجال الثقافي، على الصعيدين الرسمي وغير الرسمي؛ لضمان مزيد من الإشعاع لها إقليميا وقارّيا ودَوليا، ولتبويئها المكانة اللائقة التي تستحقها فعلا، لاسيما وأنها ثقافة راسخة متجذرة وغنية جدا، ولتقوية حظوظها في الحضور والتتويج في الملتقيات والفعاليات والمباريات المرموقة عربيا وعالميا. فهذه الثقافة تحتاج إلى تشجيع وإلى دعم أكبر، ماديا ومعنويا؛ لأن ما تخصصه وزارة الثقافة المغربية لها يظل غير كاف؛ كما لا يخفى على أحدٍ منا. كما أن النسبة العامة التي تُخصّص للبحث العلمي، من ضمن الناتج الداخلي الإجمالي، في بلدنا، تبقى ضعيفة جدا، لا تؤشّر على اهتمام جدّي بذلك القطاع الحيوي. وحين نقارنه بما لدى جيراننا الشماليين لا نجد، في الحقيقة، أي مجال للمقارنة للهُوّة السحيقة الملحوظة بينهما من حيث الاحتفالُ بالشأن الثقافي بمُختلِف تجلّياته. وينضاف إلى ذلك الإكراه المادي الذي يقف حجر عثرة في طريق كثير من الكتاب الذي يمتلكون مسوّدات ومشاريع كتب وإبداعات، ولكنهم لا يقدرون على توفير مصاريف نشرها، على نفقتهم الخاصة، أمام عدم ترحيب بعض الدور – لسبب أو لآخر – بنشر أصناف من الأدب. وكلنا يعرف أن كثيرا من الأبحاث الجامعية التي تُناقَش، وتنال رضا اللجان المناقِشة؛ فتوصي بطبعها على نفقة الكلية التي سُجلت فيها، ولكن ذلك لا يُفعَّل إلا لماما، والبقية من الدراسات الأكاديمية تبقى حبيسة رفوف مكتبات الكليات والمعاهد إلى أن يتجاوز أفكارَها وتصوراتِها الزمن؛ فتصير من العلم المتجاوَز إذا كانت مرتهنة بعامل الزمن طبعا! ونضيف كذلك مشكل التوزيع، وضعف المقروئية عندنا، وانتشار الأمية بين الكبار والصغار بنسب صادمة في بعض الجهات، مع أننا نعيش في القرن الواحد والعشرين الذي حسمت فيها كثير من الدول هذا الأمر، وصارت تتحدث عن تجاوز الأمية التكنولوجية، بخلافنا نحن الذين ما زلنا نرمي، بمخططاتنا الإستراتيجية، إلى تجاوز أمية الكتابة والقراءة!
مشاركة :