النسخة: الورقية - سعودي لم يتوقف الإمام ابن تيمية عن كونه مصدراً للبحث والدراسة عند الموافق له والمختلف معه، منذ زمنه وحتى العصر الحاضر، هذا العصر الذي بطبيعته المعرفية وتقنياته المعلوماتية يتيح الفرصة الكبرى للتواصل وإمكان الحصول على متفرقات المحتوى العلمي، ونتيجة لذلك فقد زخر بمنتجات فكرية تستحق الإشادة والإفادة. لست هنا لأتحدث عن الكتب التي تترجم للشيخ أو تدافع عنه. ولا عن الكتب التي تجمع فتاواه وترجيحاته وتنسق بينها. إنما سأتحدث عن مجموعة من الدراسات والأبحاث التي تغوص في عمق أفكاره وتكشف قوته الاستقرائية ومعالم مشاريعه العلمية، لأن ذلك هو الأهم كونه حفريات خالدة يُبنى عليها أعمال التطوير المستمر، إذ تمثل امتداداً لفكر الشيخ، وفي هذه الأيام سعدت بمطالعة كتاب «منهج ابن تيمية المعرفي: قراءة تحليلية للنسق المعرفي التيمي» للدكتور عبدالله الدعجاني، وكنت قرأت قبله على نسقه «ابن تيمية وموقفه من الفكر الفلسفي» للدكتور عبدالفتاح فؤاد، و«واقعية ابن تيمية» للدكتور أنور الزعبي، و«تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية للدكتور إبراهيم عقيلي، و«ابن تيمية واستئناف القول الفلسفي في الإسلام» للدكتور عبدالحكيم أجهر. وكان هذا الأخير والأول يتمتعان بالقوة البحثية أكثر من عشرات الكتب في فهم ابن تيمية الفيلسوف. إلا أنني أشيد بالشمولية والعمق التي أنتجها الدكتور الدعجاني في كتابه المذكور آنفاً، إذ يفتح الباب للدخول إلى عالم ابن تيمية من زاوية مختلفة عن الزوايا التقليدية. وليس بمقدور هذه المقالة أن تبرز المحتوى المعرفي لهذه الكتب وغيرها، لكن الهدف من ذكرها هو الإشارة إلى الوعي الجديد في تشكيل العلاقة مع التراث وتراث الإمام ابن تيمية الذي كان - ولا يزال - مثيراً للجدل، ذلك أن من الخطأ والخطر اختزال الإمام ابن تيمية في فتاوى وترجيحات فقهية أو في آراء عقدية تنتمي إلى مرحلة من تكوينه الفكري أو أحداث كانت تعصف بالحال السياسية والاجتماعية التي كان يعايشها. إن ذلك من الخطأ، لأنه يخالف أسس الأخلاقية المعرفية والأمانة العلمية، وأما كونه خطراً فهو ما أتاح لجماعات التكفير والقتل استثمار تلك المراحل للتأسيس من خلالها لمشروعية مناهج العنف والكراهية والقتل باسم العقيدة. الشيخ ابن تيمية صاحب مشاريع علمية فكرية إصلاحية لا يمكن تجاهلها، وإن اعتراها توقف منه أو انصراف عنها لظروفه الخاصة أو للظروف المحيطة به التي سطرها المترجمون له من معاصريه ومن بعدهم. وكان من البر به والوفاء له أن تُستكمل تلك المشاريع وأن تعزز بالنظريات اللاحقة لها، لتأخذ تفاعلها العالمي. ولعلي هنا أشير إلى موضوعين مهمين يظهر من خلالهما الإمام ابن تيمية صاحب مشروع مستمر لا يخدم مرحلة أو يتوقف عند حدث، وهما مشروعه في تصحيح التصوف، وفي تصحيح المنطق. لقد كتب ونشر في الموضوع الأول دراسات عدة، لكنها - للأسف - تتخذ الموقف المسبق والرافض للتصوف، ثم تبحث عما كتبه الشيخ في مناقشة رموز معينة من أهل الطرق الصوفية، وتتجاهل أن للشيخ كلاماً جميلاً في تصوف أهل الحقائق، بل له من المصنفات ما يُعد منتجاً صوفياً بامتياز، مثل: التحفة العراقية والاستقامة ومجلد التصوف ومجلد السلوك من مجموع الفتاوى. ومن الكتب التي صُنفت حول ابن تيمية والتصوف التي لا تتخذ الموقف المسبق، كتاب «سؤال العالم. الشيخان ابن عربي وابن تيمية» للدكتور عبدالحكيم أجهر. وما جمعه الأستاذ عبدالعزيز المصيطف بعنوان: «تصوف ابن تيمية» وغيرها. إن مشروع ابن تيمية في تصحيح التصوف سيكون من أهم ما يقدم للسلوك الإنساني ولاسيما أننا نشهد تحولاً عالمياً للعلوم الروحية باعتبارها الوعي الكوني لإنسان هذا العصر. كما أن الصوفية والتصوف كيان لا يمكن تجاهله في العالم الإسلامي في شتى مذاهبه وطوائفه. لذلك يتأكد علينا أن نجعل هذا المشروع ضمن مشاركاتنا الإسلامية في نظريات السلوك الإنساني. أما تلك الدراسات التي تبنت موقفها بالمسمى التيمى فهي لا تضيف ما يمكن البناء عليه، لتحقيق الوعي الإنساني والسلم الاجتماعي العالمي، وإنما تصب في الحروب السجالية الكلامية فلا تصحح معوجاً ولا يسلم منها المستقيم. أما مشروعه الثاني «تصحيح الفلسفة» فهو من أهم المشاريع المعاصرة التي يجب أن تثير الأسئلة حول كثير من منتجات الفكر الفلسفي المعاصر حول الإنسان وعقله وطبيعته النفسية وحقيقته الوجدانية، وفي علم من يدري أن الإمام ابن تيمية مؤسس فاعل في هذه الفلسفات يتجاوز كثيراً من أخطاء الفلسفة القديمة. أرجو أن تتناول هذه المواضيع جامعاتنا ولا سيما ونحن في المملكة من له السبق في جمع فتاوى ابن تيمية وتحقيق كتبه وجلب مخطوطاتها، ونحن جديرون باستمرار العطاء بإذن الله. عليه توكلنا وبه نستعين. * عضو مجلس الشورى.
مشاركة :