أديبات متمردات على الذكورية بأسماء رجالية من الشاعرة الإغريقية سافو إلى الشاعرة العربية الخنساء إلى الكاتبة آغاثا كريستي وفيرجينيا وولف وغيرهن كثيرات، شهد الأدب العالمي مساهمات رائدة من قبل الكاتبات، رغم ما كانت ولا تزال تعانيه المجتمعات من ذكورية ولو بدرجات متفاوتة من تهميش وتقسيم جنسي. فلكل كاتبة تمردها الخاص على واقعها ما خلق على مر التاريخ مسارا تحرريا نجحت الكثير من المبدعات في خطّه بطرق مختلفة. لذا فظاهرة التمرد التي طبعت الكاتبات ليست حديثة العهد بل لها جذور ضاربة في القدم. العربممدوح فرّاج النّابي [نُشرفي2016/11/26، العدد: 10467، ص(15)] صرخة ضد القمع ولو بوجه مخفي لوحة لمنيف عجاج يقول المترجم كامل يوسف في تقديمه لمسرحية “بيت الدمية” لهنريك إبسن “عندما تنتهي أيها القارئ من قراءة هذه المسرحية، ستجد أن آخر ما يُسمع على خشبة المسرح، هو صوت الباب الخارجي الذي تصفقه مسز نورا هيلمر خلفها وهي تُغادر بيت الزوجية، بعد أن أيقنتْ أنّه لم يكن سوى بيت الدمية، وأنها لم تكن فيه سوى دمية يقتنيها ويملكها زوجها تورفالد هيلمر. عندما تتخيّل الباب وهو يُصْفَق على المسرح، عليك أن تتذكر أن هذا الصَّفق الذي دوّى على المسرح عام 1879، عندما مُثلت هذه المسرحيّة لأوّل مرة في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، إنما هو صفق تردّد صداه في جميع أنحاء أوروبا، وكان له أثر وردّ فعل بالغان”. وحوّلت تلك الحادثة الدرامية شخصية نورا من بطلة المسرحية إلى رمزٍ هام في جميع أنحاء العالم للمرأة التي تُكافح من أجل التحرّر والمساواة. فخروج نورا وتَرْكها بيت زوجها وهو ما تُرجم بصفق الباب خلفها، كان بمثابة إعلان التمرد على هذه الذكورية، وكانت هذه الصفقة التي حملت لواءها نورا، بمثابة القنبلة التي اهتزتْ لها أوروبا. فظهرت على إثرها حركات التحرّر التي عُرفت باسم النسوية، كصيغة جماعية لمواجهة الظلم الذي حَاقَ بالمرأة. فقد تبلوَّر هذا في المذهب النسويّ الذي دافع عن وضعية المرأة لكونها تستطيع أن تغير النظام الاجتماعي، الاقتصادي، والسياسي عبر العمل الجماعي، وبالتالي فقد كانت المساعي النسوية ترمي إلى تحسين وضع المرأة في المجتمع. ومنذ ذلك التاريخ ونماذج المرأة المتمردة في كافة المجالات متحقّقة وأيضا متزايدة، وهو ما أكدته النظرية الأدبية بدخول مصطلح النسوية إلى أطروحاتها الفكرية وأيضا مُمارساتها وسجالاتها. ومع التأكيد على أن الكثير من الحقوق التي نادت بها المرأة من أجل تحسين النظرة إليها مازالت في المجتمعات الشرقيّة مجرد أحلام وشعارات مرفوعة لم تترجم إلى أفعال أو قوانين على الأرض، إلا أنّنا نكرّر أن البحث هنا هو بحث عن معنى آخر لهذه الصفقة التي مازال صداها حتى الآن فاعلا ومؤثِّرا في الكثير من المجتمعات. قتل البطريركية حديثنا سيقتصر على التمرد والاحتجاج لا على مستوى الكتابة وإنما على مستوى الحياة الشخصيّة، كمحاولة لتقديم صور عن أشكال التمرد على الأنماط الذكورية وكيفية مواجهة المجتمع وخرق نواميسه وأنساقه المشكّلة، وهو ما يعني البحث عن الوجه الآخر للأديبات. وفي واقع الحياة الشخصية للكاتبات على اختلاف بيئاتهن (شرقية أو غربية) هناك نماذج كثيرة استطاعت أنْ تُحقّق مدلول صفقة نورا على خشبة المسرح، في واقعها الحياتي، فتمردّت على كافة أشكال القيود التي فرضها مجتمعها ممثلا في الذكورية بصفة عامة، ونذكر هنا بعضا من هذه النماذج. الحقوق التي نادت بها المرأة من أجل تحسين النظرة إليها، مازالت في المجتمعات الشرقية مجرد أحلام وشعارات الكاتبة التركية إليف شفق المولودة عام 1971 بستراسبورغ، وصاحبة أشهر الأعمال الإبداعية مثل “قواعد العشق الأربعون” و”لقيطة إسطنبول” و”شرف” وغيرها من الأعمال التي أكدت فيها على تيمتين أساسيتين هما وضعية الأم، والتمرد على الأنساق الاجتماعية، تعتبر نموذحا حيا للتمرد على الذكورية. فقد رفضت هذه الكاتبة الانتساب إلى والدها الفيلسوف نوري بيلغين، حيث كانت تُلقب أولا بإليف بيلغين، ولكن انفصال والديها عندما كان عمرها عاما، كان له بالغ التأثير عليها. وعندما بدأت ممارسة فعل الكتابة كانت في الثامنة عشرة من عمرها، وكان تفكيرها جديّا لماذا عليها أن تحتفظ بلقب عائلة أبيها، وهي لم تره مطلقا؟ فكان قرارها الصادم بأن نظام ألقاب العائلات لا ينطبق عليها، كما أنها اتخذت قرارا بعدم الزواج، وعندما تمّ الزواج غضب متابعوها وبدأوا يلاحقونها لمعرفة أسباب التغيير، وقد وصلت الملاحقة إلى حد اتهامها بأنها أحنثت في وعدها. ومع كثرة الأسئلة والاستفسارات على حسابها الخاص (الإيميل) وعلى البيت، جاء جوابها “إنه الحبّ”. وغيّر الحب قناعات إليف عن الرجل لكنه لم يُغيّر موقفها من الانتساب إليه. فبعدما انضمت إلى جماعة أدبية اتّصل بها مُحرر المجلة التي تتبعها الجماعة، وطلب منها إن كان لديها أي تغييرات طفيفة تريد إجراءها على القصة قبل موعد طباعة المجلة، وقد أجابت بعجالة “نعم، لقب عائلتي، سأُغيره”. وفي مثل هذا الأمر يُفهم أن ثمة مشروع زواج قادم هو ما يستوجب التغيير، لذا قال المحرّر: تهانينا. أدركتْ سوء الفهم الذي وصل إليه، فقاطعته: لا، ليس بهذا الشكل، لقد قررت أن أعيد تسمية نفسي. فصدرت عنه ضحكة خفيفة، وتابع قائلا “أوكي، وكيف تريديننا إذن أن نكتب اسمك؟”. ولم تكن شفق قد رتبت للأمر بعد، فاعترفت له “لست أدري بعد، إنه قرار مصيري، عليّ أن أُمعن التفكير فيه”. ثم تابعت “أمهلني يوما، سأجد لقبي الذي سأحمله إلى الأبد، سواء تزوجت يوما أم لا”. وبعد قرار الحسم كان اختيارها أن تأخذ اسم أمها شفق إتيمان، وهي دبلوماسية تركية كان لها بالغ الأثر في التنوع الثقافي واللغوي الذي عليه إليف، حيث تجيد لغات عديدة اكتسبتها من رحلاتها معها أثناء عملها.والغريب أن أثر هذه الرحلات لم ينعكس على أعمالها قط، فقد كانت دائما تعود إلى وطنها تركيا ومشاكل الهوية والإثنية والعادات والتقاليد. ولكن الاستثناء الوحيد جاء في رواية “إسكندر” والتي تمت ترجمتها إلى العربية بعنوان “شرف”، فالرواية بدأت في جنوب تركيا مرورا بإسطنبول ثم ألمانيا واستقر بها المطاف في دبي. واختارت الكاتبة أن يكون توقيعها إليف شفق. فحتى بعد زواجها منالصحافي أيوب جان، وكما هو متعارف في المجتمعات الغربية تأخذ الزوجة لقب عائلة زوجها، لكن هذا لم يحدث مع إليف. إيليف شفق وماري آن إيفانس أديبتان تمردتا على طبيعتهما النسوية أديبات مسترجلات يلوح تمرد شفق على كل العادات في عدم ارتدائها للفستان الأبيض ليلة زفافها من أيوب، فهي لا تحب الأبيض منذ “حكاية الأرز بالحليب” التي روتها باستفاضة في كتابها حليب أسود، بل إنهما وهما ذاهبان إلى السفارة التركية في ألمانيا لإتمام الزواج، تصادف أن رأت أحد المتسوّلين على باب السفارة وخطر ببالها أن يكون هذا المتسول شاهدا على زفافهما، لكنها لم تستطع توصيل المعلومة له واكتفت بإعطائه ما لديهما من سجائر. وهكذا استطاعت إليف أن تنتصر لأمها ولنفسها من عائلة أبيها، والغريب أن حالة التمرد هذه ظاهرة بصورة واضحة في كافة أعمالها، وجاءت رواية “لقيطة إسطنبول” وهي الرواية الثانية لها وقد صدرت عام 2006 تجسيدا لهذه القيم التي تؤمن بها إليف. والرواية إلى جانب أنها في أحد جوانبها ترصد العلاقة الشائكة بين الأتراك والأرمن، لكن في أحد مسارات الرواية تجعل من البطلة متمردة على القيم الأبوية، وكان من نتائج هذه الرواية أنها تحولت إلى المحاكمة بتهمة إهانة القومية التركية. إذا كانت إليف شفق قد تمردت على الاسم الذكوري في لقبها، فهناك أديبات تمردن على طبيعتهن النسوية تماما، وكن يكتبن باسم ذكوري. وفي العام 1950 ظهرت في تركيا رواية رومانسية بعنوان “صبايا صغيرات” كان مدوّنا على غلافها اسم فنسنت يوينغ وقد تصدّر الكتاب في تلك الفترة قائمة الكتب الأكثر مبيعا، وزاد الطلب عليه، وغطّت الصحافة أخباره، ولكن المثير لدى الصحافيين أنه لا توجد بين أيديهم معلومات عن صاحب الكتاب لإجراء حوارات معه بشأن الكتاب. وبعد التواصل مع الناشر وضعت بين أيديهم ثلاث معلومات فقط وهي: أن المؤلف أميركي ورجل ومسيحي. لكن بعد فترة من الزمن تمّ الإعلان عن اسم المؤلف الحقيقي، وقد كانت المفاجأة أنها امرأة تركيّة ومسلمة اسمها نيهال بينويله. وعندما سُئلت لماذا أخفت هويتها؟ كان جوابها كالآتي “كنت أنا نفسي صبيّة صغيرة عندما كتبت الرواية، وضعت فيها قدرا لا بأس به من الشهوانية التي تعتبر غير ملائمة للفتيات اليافعات أمثالي وقتها. اخترت اسما مستعارا لرجل وأثناء ذلك كان هناك اهتمام متعاظم بالروايات المترجمة، لذا قرّرتُ أن يكون كاتب روايتي أميركيا وادّعى ناشري أنها تُرجمت عن الإنكليزية”. وبررت إحدى الكاتبات هذه الحيلة في الكتابة خاصة بأن الكاتبة التركية إبان الدولة العثمانية فاطمة تولوز كانت تكتب تحت اسم إحدى النساء، وقد كان ذلك بمثابة الحصانة التي تحتمي بها النساء عندما يكتبن عن الجنس. إليف شفق استطاعت أن تنتصر لأمها ولنفسها من عائلة أبيها، وحالة التمرد هذه ظاهرة في جل أعمالها وهو المعنى الذي ترجمته الكاتبة مارغريت أتوود في مقالة لها عن العمات الكبيرات فقالت “شعور النساء بالحصار يكون على أشُدْه داخل العائلة. ويزيد كلما كانت العائلة قوية ومتماسكة”. ملابس رجالية هناك أيضا ماري آن إيفانس، وهي روائية إنكليزية ولدت في 22 نوفمبر1819 وتوفيت في 22 ديسمبر 1880، اتخذت اسما ذكوريا فكانت توقع كتاباتها باسم جورج إليوت. وفي حالة جورج إليوت ثمة أسباب عديدة مختلفة عن النساء الأتراك، ومن بينها أنها كانت تريد أن تبتعد عن عالم الشهرة، لتخفي علاقتها بالفيلسوف جورج هنري لويس، الذي كان متزوجا في ذلك الوقت. ولكن الأغرب أنه عرف عنها عداؤها للمرأة تماما، فكتبت ذات مرة عام 1856 مقالا بعنوان “روايات سخيفة بأقلام روائيات”. ولم يعد التشبث بعالم الرجال مقتصرا على الأسماء فقط، بل هناك مبدعات قلدنّ الرجال في الملبس والمظهر العام. فجورج صاند، الروائية الفرنسية المولودة في العام 1804، اختارت هذا الاسم الذي يقع في منطقة وسط بين عالم الذكور والإناث. فاسمها الحقيقي هو لأمانتين أورو لوسيل دوبن برونس دوديفانت، وقد كان طول الاسم سببا في اختيار اسم بديل لها. وبعد انفصالها عن زوجها، وقد طلبت بنفسها الطلاق منه، أخذت تتمرد وتتعامل مع مجتمعها بجرأة، فكانت ترتدي ملابس رجالية، رافعة الغليون الرجالي في تحد صارخ لقيم المجتمع الأرستقراطي في ذلك الوقت، حيث كانت المرأة واجهة بما يظهر عليها من أناقة ومحافظة. وكانت لها علاقات مع كبار الكتاب في عصرها وبوجه خاص ألفرد دي موسيه وغوستاف فلوبير وأقامت علاقة وثيقة مع الموسيقي شوبان. وقال عنها إيفان تورغينيف “إنها كانت امرأة طيبة القلب ورجلا شجاعا”. :: اقرأ أيضاً القصيدة صورة فوتوغرافية قبل أن تكون خطابا لغويا سعيد منتسب في كتابه ضد الجميع: لا براءة في الأدب ملفان سوري وفلامنكي في مجلة بانيبال رشيد الخيون يبحث ما إذا كان الجاحظ على حق
مشاركة :