على مساحة مليونين ونصف المليون متر مربع، يمتد أكبر المشاعر الإسلامية المقدسة في منطقة مكة المكرمة وأكثرها سحراً، وهو مشعر منى الذي يحوي «أكبر مدينة خيام في العالم». ويقع مشعر منى داخل حدود الحرم بين مكة المكرمة ومشعر مزدلفة، على بعد سبعة كيلومترات شمال شرقي المسجد الحرام، وهو واد تحيط به الجبال من الجهتين الشمالية والجنوبية، ولا يُسكَن إلا أربعة أيام خلال أيام الحج، ويحُدُّه من جهة مكة المكرمة جمرة العقبة، ومن مشعر مزدلفة «وادي محسر». واختلف المؤرخون على سبب تسميته، فمنهم من يقول أن «منى» لما يُراق فيها من الدماء المشروعة في الحج، ومنهم من قال أن فيها تمنى أبو البشر آدم العودة إلى الجنة، بينما رأى فريق انها لاجتماع الناس فيها، إذ اعتاد العرب إطلاق كلمة «منى» على أي مكان يجتمع فيه الناس. ولـ«منى» مكانة هامة في قلب كل مسلم، إذ رمى فيها إبراهيم أبو الأنبياء الجمرات، وذبح في المشعر كبش الفداء لابنه إسماعيل «عليه السلام»، في قصة ذُكرت في القرآن في مواضع عدة. وتضم منى أحد أبرز الأماكن الشاهدة على «عام الفيل»، وهو العام الذي اتجه فيه ملك اليمن أبرهة الحبشي إلى مكة لهدم الكعبة، مستخدماً الفيل، ويُسمى هذا المكان «وادي محسر»، لأن فيل أبرهة حُسر فيه، أي أعيي وتوقف عن الحركة، وفي هذا المكان أهلك الله الفيل. وكان المشعر شاهداً على حوادث مهمة في فجر الإسلام، إذ شهد بيعة الأنصار المعروفة بـ«بيعتي العقبة» الأولى والثانية، عندما بايع النبي في الأولى 12 شخصاً من قبيلتي «الأوس» و«الخزرج»، وفي الثانية بايعه 73 رجلاً وامرأتان من أهل المدينة المنورة، بالإضافة إلى أنه شهد نزول سورة النصر أثناء «حجة الوداع». وفي العصر العباسي، بنى الخليفة أبو جعفر المنصور مسجداً فيه عُرف بـ«مسجد البيعة» في الموضع نفسه في العام 144هـ، ثم أعاد عمارته لاحقاً المستنصر العباسي، ويبعد حوالى 300 متر من «جمرة العقبة» على يمين الجسر النازل من منى إلى مكة المكرمة. وفي مناسك الحج، يقضي الحجاج اليوم الثامن من ذي الحجة المعروف بـ«يوم التروية» في منى، ويُستحب المبيت في منى اقتداءً بسنة النبي محمد «صلى الله عليه وسلم»، وسُمي بذلك لأن الناس كانوا يرتوون فيه، ويذهب الحجيج إلى المشعر في ذلك اليوم ليصلي الناس الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً من دون جمع. ويعود الحجاج إلى منى صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة بعد وقوفهم على صعيد عرفات الطاهر يوم التاسع من شهر ذي الحجة، ومن ثم المبيت في مزدلفة. ويقضون في منى «أيام التشريق» الثلاثة لرمي الجمرات الثلاث، مبتدئين بالصغرى ثم الوسطى فالكبرى، ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه. ويتميز المشعر بعشرات الآلاف من الخيام البيضاء المكيفة المعدة لراحة الحجاج، والتي حازت عبرها على شهرة عالمية، لكونها «أكبر مدينة مخيمات في العالم». وكانت وزارة الحج أعلنت في حزيران (يونيو) الماضي، تسليم مخيمات المشعر إلى شركات ومؤسسات الحج، لتبدأ تجهيزها لاستقبال الحجاج. وحرصت المملكة على إقامة المشاريع في تلك المنطقة المقدسة لخدمة الحجاج، ومنها مشروع جسر الجمرات بأدواره المتعددة، والذي شُيد بطريقة هندسية راعت توزيع كثافة الحجيج في الرمي، وربطته بجسور مشاة مع قطار المشاعر والمناطق المحيطة بمخيمات الحجاج، ما ساهم في خفض كثافة الحجاج بتعدد المداخل وتباعدها، وسهّل تجزئة الحشود البشرية عند المداخل، وأيضاً سهّل وصول الحجاج إلى الجمرات من الجهة التي قدموا منها، ووفّر وسائل السلامة والخدمات المساندة أثناء تأدية ضيوف الرحمن نسك رمي جمرة العقبة. وكانت هيئة تطوير منطقة مكة المكرمة أعلنت خطة تطوير مشاعر الحج في العام 1435هـ، التي تهدف إلى زيادة الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة على مراحل لخدمة سبعة ملايين حاج، وذلك باستغلال سفوح الجبال وبمستويات متعددة من دون الإضرار في البيئة، وبتفريغ الجزء الأكبر من وادي منى والدور الأرضي من المسطحات البنائية لتكون متاحة لمن سبق من الحجاج، إلى جانب مراعاة عدم التفاوت الطبقي في الخدمات، تحقيقاً للمقصد الشرعي للحج. وتشمل الخطة تقديم خدمة النقل والحركة في أنماط النقل المتعددة: الحافلات المفصلية والقطارات والمشاة والنقل المعلق، بما يضمن انسيابية الحركة على أساس منهجية النقل الترددي المطور ولفصل حركة المشاة عن بقية حركة الأنماط الأخرى ولضمان التفويج الآمن للحشود والمركبات. كما سيُشيّد نفق للخدمة والطوارئ تحت الأرض يغطي جميع المشاعر المقدسة ويربطها بمجمع الدوائر الحكومية خارج المشاعر المقدسة ويربطها كذلك بشبكة طرق مكة المكرمة الرئيسة. وواجهت عمليات التطوير والبناء في المشاعر المقدسة عقبات لفترة طويلة، إذ حرص العلماء على منع البناء في تلك المشاعر، كون ذلك يفضي إلى التضييق على الحجاج. واستمر الحال كذلك إلى أن وافقت هيئة كبار العلماء في الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء في فتوى لها على عمليات تطوير في تلك المشاعر وحددت لها معايير خاصة، كأن يكون البناء مرفقاً عاماً، ويتم الإشراف عليه من الدولة. وطالبت الهيئة بضروة اختيار المواقع المناسبة للبناء، بعيداً عن أماكن الزحام وفي أماكن متعددة من سفوح جبال منى، وأن تكون للمباني طرق خلفية خارج المشاعر المقدسة، ومراعاة خصوصية المكان عند التخطيط والتصميم، بحيث يتناسب عدد الأدوار ومظهرها مع طبيعة الموقع ومكانته، وأن يراعى في تصميم المباني عوامل التيسير على الحجاج، ومشاركة لجنة المشاعر في هيئة كبار العلماء في اختيار المواقع المخصصة للبناء ومتطلباتها. يُذكر أن "مشعر منى" شهد حادثاً مأساوياً في أيلول (سبتمبر) من العام الماضي 2015، أسفر عن مقتل حوالى 770 حاجاً، بالإضافة إلى إصابة الآلاف، بحسب الإحصاءات الرسمية، عندما انتهى الحجاج من المبيت في مزدلفة وكانوا يتجهون إلى منى، وسط زحام كثيف وتدافع أثناء رمي الجمرات، ما أدى إلى تعارض حركة الحجاج داخل المشعر وسقوط أعداد هائلة منهم، بالإضافة إلى ارتفاع درجة الحرارة وسقوط كثيرين منهم من الإعياء.
مشاركة :