إن العلاقة بين مضامين التوجهات الدولية حول قيم المواطنة، وفي مجالات تداخلها مع القطاعات المؤسسية المعنية، التي يمكن من خلالها إبراز دور المفاهيم المتعلقة بتلك القيم من حيث "المساواة والحرية والمشاركة والمسئولية الاجتماعية"، قد تُساهم في إعادة صياغة الأفكار الناجمة عنها، وبحسب المجتمعات المستهدفة، وعلى ضوء ذلك يمكن إيجاد الأساليب المناسبة لبلورة النتائج المترتبة على تلك العلاقة، وتأثيرها في الفكر الملائم. لذلك نجد أن ماهية تلك العلاقة تتجه نحو دراسة الظواهر الاقتصادية والعوامل الاجتماعية والثقافية والبيئية ذات الصلة بمؤشرات الواقع الميداني، والعمل على إيجاد العلاقات الترابطية بين مكونات القيم ومتغيراتها، والتعامل مع الأسباب والآليات الفاعلة الكامنة وراء هذه المتغيرات؛ حيث من المحتمل أن ينتج عنها "خطاب فكري" يتأرجح بين "الصراعات الدينية" و"علمانية السياسة"، ودورهما في إيجاد آليات التفكيك والاندماج وإعادة البناء لمكونات القيم الإيجابية والقيم المضادة لها؛ لعل ذلك يُسهم في صنع القرار السياسي، وفي تشكيل اتجاهات الرأي العام. لذا نجد أن سياسة العولمة الحالية لا يمكن -كما يزعم أهلها- أن تقيم سلاماً أو وفاقاً، فكيف لحصاد سياسي، قوامه موروث الحروب والصراعات ومقايضات اقتسام ثروات الشعوب، أن تنبثق عنه ثقافة تعاون على المستوى العالمي أو الإقليمي أو الدولي أو حتى المحلي، مما قد يتطلب دراسة جدوى الإرث التاريخي للقوى المهيمنة خلال مراحل متعددة بالنظر إلى مظاهر ذلك الإرث، والذي نجم عنه استغلال فوارق القوة والسلطة على اختلاف أنواعها، مما أدى إلى توظيف الثقافة لتعزيز هيمنتها على الشعوب المختلفة وأثرها في تنمية "السلوك الثقافي" لدى مواطنيها. فهل يمكن لقيم المواطنة في المرحلة الراهنة أن تصلح ما أفسدته السياسة؟! ومن هذا المنطلق، يمكن النظر في تقديم نماذج جديدة لصياغة توجهات دولية وإقليمية في ظل النظام السياسي القائم على إشاعة قيم المواطنة وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان؛ لتعمل تلك النماذج على تقديم التصور المتكامل لبناء الإنسان وتطوير قدراته، وتعزيز إمكانياته التي ترتكز على الوعي التاريخي، وإدراك مدى ارتباط الشعوب بهويتها وتمسكها بذاكرتها الاجتماعية، بحيث يكون لذلك النموذج القدرة على استعادة توازنها تلقائياً بفعل أياديها الخفية، وتحسين صورة السياسة التي قد تتداخل مع الاقتصاد لإحداث توازن بين ثلاثية "السياسة والاقتصاد والأخلاق". ولما كانت السياسة -كما أشيع عنها- هي فن الممكن، والممكن هنا ما يمكن استخلاصه من الواقع أو إسقاطه عليه، وقد أدى هذا الارتباط الشديد بالواقع إلى أن يتخلى عن موضوعيته دفاعاً عن مواقف شخصية، وهو وضع من شأنه أن يوقعه في فخ الاستثناءات، ويجعله -من ثَمَّ- قاصراً عن استخلاص التعميمات التي يمكن أن يبنى عليها مجال معرفي يتسم بالرصانة والأصالة. لقد غلب على هذا الفكر السياسي اللصيق بالواقع طابع إدارة الأزمات، وهو يتلهف دوماً لاحتواء الأحداث العارضة، وسد الثغرات وتجنب اختلال التوازنات، لا يكاد يلتقط أنفاسه لكي يستوعب ويحلل ويعيد التقييم، والذي غالباً ما يتم بعد فوات الأوان، فضلاً عن وقوع الفكر السياسي في فخ صراعات أيديولوجية حادة، حالت شدة تناقضاتها دون البحث عن المشترك والمتوافق، فالفكر الماركسي القائم على المادية الجدلية -على سبيل المثال- عجز عن أن يقيم جدلاً مع الفكر الرأسمالي بغية أن يضمن لنموذجه الاشتراكي ما يجعله قادراً على استيعاب الحوافز الشخصية في منظومة إنتاجه. أما في المجال الأخلاقي "الافتراضي" نجد أن النظام العالمي الجديد والقديم على حد سواء يتعاملون مع دول رخوة ليسهل انقيادها وتطويعها في مواجهة أي تطلعات أو طموحات لإيجاد تكتلات إقليمية أو دولية أو وطنية، ويعمل على إيجاد مفاهيم جديدة ترشد تلك التطلعات وتصوبها إن أمكن باتخاذ القيم المشتركة والملائمة للهياكل الاجتماعية المناسبة من خلال مراجعة القوى السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية، في ظل عملية تواصلية مع وحدات تحليل، ومساحات تفعيل أكثر إنسانية، وأكثر اجتماعية، ومن ذلك يمكن إيجاد البدائل اللازمة لصناعة تحالفات دولية قائمة على المصالح المشتركة، بحيث تكون قادرة على التفسير والتغيير واستشراف المستقبل، وفي إطار هذا الأساس الأخلاقي الذي يعبر عنه بالمنطق الأخلاقي "لن تحل مشكلة الهواء إلا بتحويله إلى سلعة"، ومنها تأثير القروض -قروض صندوق النقد الدولي- في حل أزمة الاقتصاد في البلدان النامية، والإعلام الفضائي غير الرسمي، ومواقع التواصل الاجتماعي، والمدونات، وتوفير الإنترنت لقنوات موازية للإفصاح عن الرأي، خصوصاً من قِبل مؤسسات المجتمع المدني. وبذلك يختص "علم اجتماع التربية" بوضع الأسس العادلة التي بناء عليها تُنتقى المعرفة، وتنظم، وتوزع داخل المؤسسات التربوية والاجتماعية، وكيف يمكن أن تعمل آليات الصراع الاجتماعي في البيئة الخارجية للمؤسسات التعليمية على تقويض هذه الأسس، مما يجعل من المعرفة التربوية مسألة اجتماعية وسياسية، وليست مسألة فنية وموضوعية فقط. وعلى ضوء ما سبق، ركزت النظرية النقدية لعلم اجتماع التربية على دراسة أوضاع الفئات الاجتماعية المقهورة، وتعرية آليات توظيف المعرفة اجتماعياً بوصفها سلاحاً أيديولوجياً بهدف تحقيق السيطرة، وتبرير ممارسة السلطة، وترسيخ النظام القائم وإعادة إنتاجه، وعلاجاً لهذا الخلل الاجتماعي ذي الأساس المعرفي: تسعى المدرسة النقدية لعلم اجتماع التربية إلى استحداث أساليب بديلة جديدة للمعرفة مغايرة لتلك التي تساندها نظم التربية الموالية للسلطة الحاكمة، وهكذا يمكن التأكيد على أهمية "العامل الثقافي" في إحداث التكامل الإقليمي المنشود في بلدان وطننا العربي الكبير. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :