مهرجان الفنون الإسلامية..معارج الجمال

  • 11/28/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

محمد ولد محمد سالم يسعى مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية الذي تنظمه دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة لإظهار حيوية الفنون الإسلامية وعمقها التعبيري كلغة فنية عالمية، و يعنى بمنجز الفن الإسلامي في بعديه الحضاري والراهن. دأب المهرجان على تخصيص كل دورة بشعار ذي بعد فني ودلالي مرتبط بتراث الفن الإسلامي، لكنه يمتلك القوة للانفتاح على الفنون المعاصرة، باعتبار أن المفاهيم المؤسسة للفنون جميعا هي مفاهيم واحدة تنطلق من فلسفة الجمال، لكنّ الصياغات المختلفة المرتبطة بثقافة الفنان وهويته الحضارية، ولحظته التاريخية هي التي تلون تلك المفاهيم بألوان الخصوصية لديه. في دورة هذا العام، الدورة التاسعة عشرة، التي تقام في منتصف ديسمبر المقبل سيكون شعار المهرجان هو بنيان، وكلمة بنيان تحيل في التراث الفني الإسلامي على العمارة الإسلامية التي شكلت أحد ميادين الإبداع الفني الإسلامي، وتفتق من خلالها خيال الفنان المسلم فأبدع أشكالا فنية غاية في الجمال، وحملها بأيقوناته ورموزه الخاصة التي تحيل على دلالات مرتبطة برؤيته للكون، الذي يتكون من ملايين من عناصر الفسيفساء، ومن المقرنصات والاسطوانات والأقواس والحروف المكررة بلا نهاية، والتي يؤلف كل عنصر فيها مهما صغر وحدة، مستقلة بذاتها، في الوقت الذي يؤلف فيه أيضا تكرار يصنع وحدة كلية تشير إلى صانع واحد، أبدع هذا الجمال غير المتناهي، في تعدده وتكراره وتماثله الجميل، ذلك هو ما يتأسس عليه مفهوم فن البنيان لدى الفنان المسلم الذي أبدعتها سواعده في العصور السابقة، وهو بذلك يتجاوز الصورة المادية الظاهرة للبناء بأبعاده الثلاثية المتحيزة في المكان، وفي هذا المستوى يمكن أن نجد اتصالا بين ذلك المفهوم المؤسس في الفنون الإسلامية، وبين مفهوم البنيان في الفنون المعاصرة، التي لا يمكن تصورها خارج مفهوم البنية، فكل إبداع فني سواء كان نحتا أو تركيبا أو لوحة هو لا بد أن يقوم على بنية خفية تخيلها الفنان عند إبداعه، وترك لنا آثارا نستدل بها عليها. من خلال إئتلاف العناصر واختلافها نقرأ بينة العمل الفني، وهذا الاتصال في مفهوم البنية بين الرؤية الفنية الإسلامية التقليدية، والرؤية المعاصرة للفنون يفتح للفنانين باب الاستدعاء، والتمثل، ويجعل الطريق سالك بين العالمين، لكي يبدع الفنانون في حركة تسير في كلا الاتجاهين، وكما جاء في الديباجة التي صدرت بها اللجنة المنظمة للدورة التاسعة عشرة رؤيتها لموضوع بنيان: إن ما نتوجه إليه في الدورة الحالية للمهرجان أعمق من فكرة البناء للتوصل إلى كيان مرئي وملموس، على الرغم من هذا المسمى بُنيان، إنه يحاكي المتواري في حالة هذا البناء الذي يرسخ لحالة إبداعية ينتج عنها أي منجز يجذبنا للخوض في أسرارها. ومفهوم البناء بما فيه منظومات يخضع لها كل وجود كوني، نراه محورا جاذبا للخوض فيه، كما يدفعنا للكشف عن خفايا البنيان كمفهوم يلازم أي كيان أوجده البشر، هذا الوجود الذي لم يكن ليتحقق لولا حالة من الخلق، والحالة الخلاقة تاريخيا هي شرط يُنبئ بكل منجز إبداعي، وبنيان هذا المنجز هو الصورة البصرية والذهنية التي تتحقق بها غايات الإبداع والخلق، وهو الذي يختزل مراحل النشاط المتفرد للإنسان وروافده من الروحانيات، إذا فلنتحدث بصريا عن حالة الإبداع هذه التي ندركها أينما التفتنا، ولنخوض فيما يؤدي لأي بنيان، إنما من بوابة الفن المعاصر ومعاينته للفنون الإسلامية ومكوناتها بكل أنواعها وأطيافها الفنية. إن بنيان إذن هو دعوة للفنانين المعاصرين من كل بلدان العالم وثقافاته إلى التأمل في الآثار الفنية الإسلامية سواء في العمارة أو الخط أو الزخرفة أو الصناعات اليدوية، انطلاقا من هذا المفهوم، وابتكار أعمال فنية جديدة انطلاقا مما تلتقطه حدوسهم الفنية، وتبتكره أخيلتهم الخصبة عند الاشتباك بتلك الأعمال، ولا شك أن هذا الدعوة ستحفز أفكارا فنية وأعمالا قيمة تستوحي مفاهيم الفن الإسلامي وعناصره في فنون معاصرة، كما تعودت موضوعات المهرجان أن تفعل كل عام، إذ تشكل إثارة فنية، وتخيلية لمئات الأعمال التي يشارك بها كل عام عشرات الفنانين في المهرجان، الذين يقدمون منجزات فنية عبر كل أشكال التعبير البصري المعاصر من تجهيز بالفراغ التركيب والنحت أو الاشتغال وفق بعدين كالسطح التصويري اللوحة أو الفن الرقمي أو البيئي ضمن الاتجاهات المعاصرة والحديثة من مفاهيمية وغيرها. بذلك يسعى المهرجان إلى الانفتاح على التنوع الحاصل في الفنون المعاصرة، وما يروج فيها من تيارات فنية متعددة المشارب والاتجاهات، ولكي يبرز الإنجازات الفنية الحداثية التي تستقي من أساليب الفنون الإسلامية بعض عناصرها، لتؤكد الإمكانات المتجددة للفنون الإسلامية، وقدرتها على الإسهام في الحركة الفنية الحديثة، بما ترفد به الفنانين المعاصرين من أفكار يمكن أن يبنوا عليها أعمالاً مميزة، وكذلك لتحفيز الأفكار التجديدية لدى فناني العالم الإسلامي المعاصرين، وقد نجم عن هذا الخيار مشاركة فنية واسعة ودائمة لعدد كبير من الفنانين من مختلف بلدان العالم الإسلامي وغير الإسلامي، تتنوع أعمالهم بين الخط والرسم والنحت والتركيب والفيديو والتصوير الضوئي، وغيرها، ظهر في أغلبها ملمح أو ملامح من الأساليب الإسلامية في الفنون. ينظم المهرجان في إمارة الشارقة بكل مدنها ومناطقها، وتنظم فيه تجارب فنية دولية ضمن معارض فردية، تقام في متحف الشارقة للفنون، تعكس تنوعا في الطرح الفني في المضمون والشكل، ترافقها فعاليات تفاعلية مختلفة في أماكن متعددة، كالندوة الفكرية، وعرض الأفلام التخصصية، وتنظيم الورش العملية، وهو يسلط الضوء على إبداعات الفنان المسلم عبر العصور، والتي اشتركت في صناعاتها ثقافات متعددة، عربية وآسيوية وهندية وصينية وإفريقية، وأصبحت خلال قرون ممتدة من أغنى الفنون البشرية، وأغزرها بالتمثيلات والأساليب الفنية، ومثلت في عمقها رؤية الفنان الجمالية المرتبطة بالرؤى الفكرية والفلسفية للعقيدة الإسلامية. وخلال مسيرته الطويلة التي انطلقت منذ العام 1998 تناول المهرجان عددا كبيرا من الثيمات الفنية المرتبطة بالفن الإسلامي، ففي الدورة الماضية مثلا، وهي الثامنة عشرة، تناول مفهوم النور الذي يشكل بعدا إيمانيا تصوفيا في العقيدة الإسلامية، لعب عليه الفنان المسلم بأشكال شتى، منها الدائرة التي ترمز للشمس والقمر، والحرف العربي الذي هو تمثيل للنور، لأنه هو حرف القرآن، والقرآن من أسمائه النور، كما تناولت الدورة الرابعة عشرة المنمنمات و هي شكل فني عريق من فنون الرسم ابتدعه النساخون المسلمون، وجعله مصاحبا لنصوص الكتب القصصية ليوضحها، ويعطيها أبعادا جمالية أكثر، تريح العين، وتحفزها على مواصلة القراءة، وفي الدورة الثالثة عشرة كان الشعار هو نقش ورقش وهما تقنيتان فنيتان اشتغل بهما الفنان المسلم لإنتاج إبداعاته المختلفة في الرسم والنمنمة والزخرفة على الصحائف والنحاس والآنية الخزفية والزجاج، والنقش يأتي بمعنى تلوين الشيء، والنمنمة، وتحسين الأشكال وتزيينها، أما الرقش فيأتي بمعنى الخط الحسن، والكتابة، والتنقيط، وتلوين الأشكال بلونين متباينين، وجاءت إحدى الدورات تحت شعار فلك الفسيفساء، والفسيفساء فن تصويري ويتم تشكيله من انتظام عدد كبير من القطع الصغيرة الملونة، مكعبة الشكل لا يتعدى حجمها سنتيمترات من الرخام أو الزجاج أو القرميد أو البلور أو الصدف، وهو يحيل على مفهوم التنوع في الوحدة، أو الكل في الواحد، وهو مفهوم إسلامي بما هو أيضا مفهوم معاصر يرتبط بميادين فكرية واجتماعية وسياسية وفنية تعطيه ثراء كبيرا، وهكذا كانت كل دورة تركيزا على جانب من جوانب العناصر الإبداعية أو التقنية في الفنون الإسلامية، بحيث تشكل الأعمال المتضمنة في المهرجان إضاءة على ذلك المفهوم، ما يخلق حوارا فنيا متواصلا، سيكون له أبعاده في رؤى الفنانين في ما بعد، وفي نظرتهم إلى الفنون الإسلامية. يتضمن مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية العديد من الأعمال الفنية التي تنفتح على كل أنماط الفن الحديثة والأصيلة، ويشارك فيها فنانون من كل أنحاء العالم، من الصين واليابان وأوزبكستان وإيران وأمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، ويتضمن معرضا ثابتا للخط العربي تشارك فيه جمعية الإمارات للخط العربي والزخرفة بالعديد من الأعمال التي تعكس ما وصل إليه مستوى الفنانين المحليين من تقدم في مجال فنون الخط والزخرفة، ومدى تجاوبهم مع النزعات الحديثة في هذا المجال. وكانت الدورة الماضية شهدت تنوعا هائلا في المشاركات، فكانت هناك ثلاثة معارض رئيسية هي هكذا ستصعد إلى النجوم للأميركي أريك ستاندلي، ومعرض الانطباع الأول للبريطاني بروس مونرو، ومعرض الحمراء - غرناطة للبريطاني بن جونسون، وقارب الفنانون في تلك المعارض الفنون الإسلامية من خلال مفهوم النور الذي اتخذته الدورة عنوانا لها، وعكست مقاربتهم فهما للتصور الإسلامي للنور، وارتباطه بمفهوم الإيمان والممارسة التعبدية لدى المسلم، كما تتضمن الفعاليات ورشاً متنوعة، من بينها ورشة مدارس الخط الديواني، وورشة حياكة السجاد الخوارزمي، وورشة الطباعة بالألوان. ويشهد المهرجان برنامجا فكريا مكثفا، حيث تقام ندوة فكرية متخصصة تعكف على قضايا الفنون الإسلامية من خلال المفهوم الذي تتبناه الدورة، لدراسته من جوانبه المختلفة وتجلياته في الفن الإسلامي وفي الفنون الأخرى، لتأكيد الصلات النظرية بين العالمين، ولتكون الدراسة تأسيسا نظريا للاستلهمات التطبيقية التي يقوم بها الفنانون، وقد استطاعت تلك الندوة عبر مسيرة المهرجان المتواصلة أن تأتي على جميع جوانب الفن الإسلامي بالبحث والتحليل، فدرست العمارة الإسلامية وأشكالها وتقنياتها، وأساليب الفنان المسلم في صناعة الجمال المرتبط بخلفيته الحضارية والدينية، ودرست أشكال التصوير في الفن الإسلامي، فيما يتعلق بالمنمنمات والخط والزخرفة والفسيفساء، ودرست الدلالات الظاهرة والباطنة للنور، وأثر العمارة في فن المنمنمة وغيرها من مظاهر الفن الإسلامي.

مشاركة :