على الرغم من الاهتمام الواسع بكل الجوانب الخاصة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، بقيت مسألة استشهاد المصطفى صلى الله عليه وسلم بِسُمٍّ وضعته امرأة يهودية تدعى زينب بنت الحارث في شاة، عقب فتح النبي -محمد صلى الله عليه وسلم- لخيبر، من الأمور المسكوت عنها، والنادرة المناقشة. والحقيقة أن الروايات عن قتال النبي لليهود شابها الكثير من الافتراءات التي صوَّرت بعض هذه الفتوحات، ومنها غزوة بني قريظة، وكأنها تطهير عرقي لليهود، بقتله لـ800 مقاتل، على الرغم من استسلامهم ودخولهم في دائرة الأسرى، وهو عدد مبالغ فيه إذا علمنا أنهم احتجزوا قبل إعدامهم في دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ، فأي دار قادرة على استيعاب كل هذا العدد؟! كما أن الإعدام تم بواسطة شخصين من الصحابة هما علي والزبير، فهل يمكن لشخصين ذبح 800 مقاتل؟! كما أن القتل شمل في روايات أخرى كلَّ من أنبت، أي المقاتل وغير المقاتل، مما يرشح هذه الأعداد للزيادة، وهو الأمر الذي لو حدث لكان جديراً باستفزاز شعور اليهود الديني، وأن تتحول هذه الأحداث إلى مرثيات حزينة تبقى محفورة في الذاكرة، ولكان الأولى بالكاتب اليهودي صموئيل أسبك في كتابه "مآثر شهداء اليهود"، الذي كتبه في القرن السادس عشر المسيحي، أن يستشهد بمثل هذه التفاصيل، وهو ما لم يحدث!! حاول البعض من الباحثين التشكيك في واقعة سُم الشاة هذه، من منطلق عصمة الأنبياء من القتل، متجاهلين أن القرآن ذاته قد فتح الباب على مصراعيه بشأن وفاة النبي، فلم يستبعد القتل عنه، وذلك في قوله تعالى: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ". كما أن التحجج بعدم قصاص الصحابة من هذه المرأة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- ربما كان راجعاً إلى عفو النبي عنها في حياته، وذلك في رواية، أو أن النبي قد قتلها جزاء على فعلتها، كما تزعم رواية أخرى. ننتقل إلى ما يعنينا في هذا المبحث، وهو تحديد ماهية هذا السم، الذي نرجح أنه الزرنيخ، وهو من المعادن الثقيلة التي تؤثر على بروتوبلازم الخلية نتيجة تكوين مركب معقد يؤثر على إنزيم pyruvate dehydrogenase enz، الضروري لعملية الأكسدة لتوفير الطاقة في الجسم. وتعتبر جميع أشكال الزرنيخ سامة، إلا أن الزرنيخ ذا التكافؤ الثلاثي أكثر سمية من الزرنيخ خماسي التكافؤ. نستهل أسباب هذا الترجيح بقدم هذا السم ومعرفة اليهود به عن طريق الرومان؛ حيث يرجع تاريخ الزرنيخ الأبيض (أكسيد الزرنيخ الثلاثي) إلى الآشوريين، مروراً بالإغريق والرومان، ومما يروى أن أجريبينا الصغرى أمّ الإمبراطور الروماني نيرون قد قتلت زوجها به حتى تتمكن من الزواج بالإمبراطور كلوديوس، بعدما قتلت زوجته وابنه؛ ليصبح ابنها نيرون هو الإمبراطور خلفاً لكلوديوس، ونظرا لأن ابنها نيرون الذي أشعل النار في عاصمة ملكه روما فيما بعد كان شديد البر بوالدته، فقد أمر بإعدامها خوفاً على حياته منها! وهي التي فعلت كل هذا من أجله. كان انتقال المعارف، ومنها علم السموم، لليهود مسألة تبدو منطقية، وقد كانوا تحت حكم الرومان بالشام، ثم كانت هجرتهم من فلسطين إلى جزيرة العرب بسبب تنكيل القيصر الروماني طيطوس بهم وهدمه لمعبدهم سنة 70 م، ثم كانت الهجرة الثانية مع اضطهاد القيصر الروماني هدريان عام 132م، وهو ما ذهب إليه أبو الفرج الأصفهاني ومؤرخون آخرون. يعتبر الزرنيخ في هذه الفترة المبكرة سماً مثالياً فهو مسحوق أبيض فتاك عديم الرائحة، يصعب تمييز طعمه إذا وضع في الطعام أو الشراب على هيئة صلبة أو كمحلول، كما أن أعراض التسمم بالزرنيخ عادة ما تظهر بعد فترة قد تطول إلى حد يبتعد فيه الجاني عن المجني عليه، فآثاره تحتاج إلى عدة أعوام للظهور، وهو ما نراه تفسيراً مقنعاً لبقية الرواية التي تذهب إلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقي ثلاث سنين بعد حادثة سُم الشاة حتى كان وجعه الذي مات فيه، كما أن إسراع النبي للعلاج بالحجامة ربما كان عاملاً آخر في تقليل وتحسين أعراض التأثير السمي للزرنيخ، فقد كان جابر يحدث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم على كاهله من أجل الشاة التي أكلها، حجَمه أبو هند مولى بني بياضة بالقرن. ثمة أسباب أخرى تتعلق بتشابه الأعراض التي عانى منها المصطفى -صلى الله عليه وسلم- مع أعراض التسمم بالزرنيخ، وكم كان توصيف النبي دقيقاً ومعجزاً حينما قال: "يا عائشة، لا أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم"، والأبهر هو الشريان الأورطي أكبر شريان في جسم الإنسان، والّذي مصدره من القلب، ويقوم بتغذية جميع أعضاء الجسم، وعادة ما يتركز الزرنيخ في الأورطي كما أنه يسبب ألم المعدة. كانت ملاحظة الصحابي الجليل أنس بن مالك حول الأثر الذي خلفته المضغة المسمومة في حلق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فما زلت أعرفها في لَهَوَات رسول الله صلى الله عليه وسلم)، واللهوات جمع لهاة، وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أعلى الحنك، من الملاحظات الهامة التي تتفق مع قدرة الزرنيخ على التغيير في أنسجة الجلد وترك أثر على اللثة والشفتين واللسان وازرقاق الجلد والشفاه. من الأعراض الأخرى التي صاحبت النبي في رحلة مرضه بعد هذا السم كان الصداع والحمى، فجاء في لطائف المعارف: أول مرضه كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرد بذلك، وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنا كذلك يشدد علينا البلاء يضاعف لنا الأجر، وقال: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، ومن شدة وجعه كان يغمى عليه في مرضه ثم يفيق. ويعتبر الصداع من أعراض التسمم بالزرنيخ، كما قد يسبب الجفاف في الجسم، مما قد يؤدي إلى جلطة، وتتبعها تشنجات مع حدوث إغماء، وقد تحدث الوفاة نتيجة لذلك. ما قيل حول انتفاخ بطن النبي صلى الله عليه وسلم، ورد ذلك لكون جثمان النبي ترك حتى تعفن، وهي حادثة حاشا لله أن تحدث، ولكن يمكن لنا أن نعرضها في تصور آخر على افتراض حدوثها أنه عرض من أعراض التسمم بالزرنيخ نتيجة لتضخم الكبد، ففي حديث وكيع عن ابن أبي خالد، عن البهي: أن أبا بكر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكب عليه، فقبله، وقال: بأبي أنت وأمي، ما أطيب حياتك، وما أطيب ميتتك. قال البهي: وكان النبي صلى الله عليه وسلم ترك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصره. أن الدراسة التي نعرضها اليوم هي محاولة لكشف الغموض حول سُم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تخرج عن كونها دراسة علمية اجتهادية، حاولنا فيها أن نضع عنواناً للحقيقة في واحدة من أخطر القضايا في التاريخ الإسلامي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :