يعلم الجميع حادثة مقتل المتنبي التي بدأت بقصيدة هجاء مقذعة في ضبة وأمه؛ ليترصد له فاتك ومعه مجموعة من قومه في طريق عودته إلى الكوفة لقتله، وعندما دار القتال حاول المتنبي الهرب؛ ليذكره غلامه ببيته الشهير: الخيل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم ليعود ويقاتل، ثم يقتل؛ ليعرف بالشاعر الذي قتله شعره. أجمع المؤرخون على أن فاتك الأسدي هو مَن قتل المتنبي، ولا خلاف في ذلك، لكن هل هذا هو سبب مقتل المتنبي؟! أولاً: يجب ألا تُؤخذ حادثة مقتل المتنبي بمعزل عن المشهد السياسي القائم وقتها، كان زمن المتنبي هو زمن الانحطاط السياسي؛ حيث تجزئة الدولة العباسية إلى مقاطعات مستقلة، في ذلك الزمن كان الشعر بمثابة الوسيلة الإعلامية التي تصنع وتقود الرأي العام نحو القيادة السياسية، وقد كان المتنبي مرتبطاً بالسياسة ارتباطاً وثيقاً، ونتيجة لما يراه الشاعر من تمكن للعجم وتحول للحياة الاجتماعية كان لا بد من الدعوة إلى قيادة عربية توحّد العرب والمسلمين، وكان هذا هو مشروع المتنبي، فلم يكن المتنبي مجرد شاعر بلاط متزلف، كما يظن البعض، كان المتنبي يدعو إلى سيف الدولة الحمداني ويمدحه، وتعد السيفيات أعظم ما كتبه المتنبي، خلاف مدائحه الأخرى التي كانت خالية من روح الشاعر، وما القيم التي طرحها المتنبي في السيفيات إلا قيم أراد المتنبي أن يلبسها لسيف الدولة؛ ليصنع منه هذا القائد الذي كان المتنبي حتى بعد رحيله عنه يذكره في قصائده. بعد أن دخل الوشاة بينه وبين سيف الدولة خرج المتنبي إلى كافور، ثم إلى البويهيين الذين كان لهم يد في اغتياله، أقام المتنبي في أرجان ومدح فيها ابن العميد، وعندما أراد المتنبي توديع ابن العميد والعودة إلى بغداد، أتاه كتاب من عضد الدولة يستدعيه، فسار المتنبي من أرجان حتى اقترب من شيراز، فاستقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ، ولقيه فأنشد المتنبي أمامه أبياتاً قوية ملؤها التحدي، قال فيها: فلما أنخنا ركزنا الرما ** ح حول مكارمنا والعلا وبتنا نقبل أسيافنا ** ونمسحها من دماء العدا لتعلم مصر ومن بالعراق ** ومن بالعواصم أني الفتى وأني وفيت وأني أبيت ** وأني عتوت على من عتا ثم دخل البلد ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى، فقال عضد الدولة: هو ذا، يتهددنا المتنبي! وقد لمَّح المتنبي في آخر قصيدة ألقاها أمام عضد الدولة إلى شر سيصيبه فـي طريق عودته؛ إذ قال: وأَياً شِئتِ يا طرقي فكوني ** أَذاةً أَو نجاةً أَو هَلاكا دسَّ خصوم المتنبي من البويهيين لفاتك الذي كان قاطع طريق، ويتزعم مجموعة من المجرمين، قصيدة تهجوا أخته أم ضبة نسبوها زوراً للمتنبي، وأوعزوا له بقتله، وقد شكك الكثير من الأدباء والمتخصصين في صحة نسب قصيدة هجاء ضبة للمتنبي، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ما أورده محمود شاكر في كتابه المتنبي؛ حيث يقول: "ما يروونه من السخف في حكاية مقتله بسبب القصيدة التي أوّلها: ما أنصف القوم ضبة ** وأمه الطرطبة... إلى آخر الفحش القبيح الذي ورد بها، فلنا في نقده ونقضه وجوه"، ولم يورد النقد رحمه الله. أيضاً مع ذكر ما جاء في شرح ابن جني صاحب المتنبي وراويته وأحد أهم شراحه، أن أبا الطيب أنكر إنشاد هذه القصيدة، وقال الواحدي مثل هذا، من هنا يتبين لنا أن المتنبي قد اغتُيل اغتيالاً سياسياً، ليس بسبب قصيدة هجاء فاحشة ركيكة ليست من أسلوبه. قُتل المتنبي عام 354 هـ وترك خلفه إرثاً شعرياً عظيماً، رحل خصوم المتنبي، وظل شعر المتنبي يتردد: وما الدهر إلا من رواة قصائدي ** إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشداً ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :