هل أن عصر الجماهير هو عصر حكم الطغاة؟ تساؤل محوري ومهم طرحه الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي إيلي هاليفي في كتابه «عصر أنظمة حكم الطغاة»، الذي صدر قبل الحرب العالمية الثانية متزامناً مع صعود النازية والفاشية في أوروبا. وهو السؤال الذي يتجدد الآن مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وصعود اليمين المتطرف في فرنسا، ما يقودنا إلى سؤال آخر لا يقل أهمية، وهو: هل تعد فاشية ترامب مجرد أيديولوجيا عابرة تسقط بسقوطه، أم إنها تعبير عن تناقض بنيوي كامن في النموذج الليبرالي الديموقراطي الغربي ذاته؟ ارتبط صعود ترامب بأزمة النخبة الأميركية التي كشفت الانتخابات الرئاسية الأخيرة مدى انفصالها المروع عن الجماهير التي انتخبت في النهاية شخصاً ترفضه تلك النخبة الليبرالية، بشقيها الجمهوري والديموقراطي، كما يرفضه الإعلام الذي تكتل ضده، وانحاز إلى هيلاري كلينتون. فطبيعة حراك وتطور النخبة السياسية في المجتمعات الديموقراطية كانت ولا تزال أحد الأسباب التي أدت إلى بزوغ النزعات الفاشية والشعبوية من رحم النظم الديموقراطية نتيجة تناقض كامن في النموذج الفلسفي والمعرفي الليبرالي نفسه ما بين قيم الليبرالية الراسخة والفاشية الشعبوية، وفق ما أشار المفكر الفرنسي جان توشار في كتابه «تاريخ الأفكار السياسية». ولعل المثال الأكثر وضوحاً وإثارة للجدل في هذا السياق هو فيلفريدو باريتو، المفكر الاجتماعي الإيطالي الذي كان نصيراً متحمساً للديموقراطية الليبرالية والاقتصاد الحر، ومعارضاً في الوقت ذاته للنزعات العسكرية والحمائية. وهو طوَّر مفهوماً في شأن النخبة انطلاقاً من اعتقاده بأن البرجوازية الأوروبية القائدة انحطت وستأخذ المجتمع الحديث باتجاه السقوط كما حدث للإمبراطورية الرومانية. ومن ثم، فإن شرط التوازن الاجتماعي، عنده، تمحور حول ما سماه «حراك النخب» التي يفترض أن تتجدد دائماً برافد مجتمعي آتٍ من الطبقات الدنيا مع خضوعها لضغوط الجماهير. إلا أن النخب عندما لا تكون قادرة على الدفاع عن مواقعها لا يبقى لها إلا تركها لنخبة جديدة تتمتع بالمزايا «الفحولية». هذا التفسير الذكوري للحراك النخبوي دفع باريتو في النهاية إلى التعاطي مع الفاشية الإيطالية بقدر من التعاطف والاطمئنان. لكن باريتو وغيره من الفلاسفة والمفكرين الذين نظّروا الى مفهوم النخبة الجديدة كبديل للنخبة البورجوازية التقليدية، مثل الإيطالي جاتيانوا موسكا والألماني روبرت ميشيلز، اندفعوا في اتجاه التفرقة بين الجماهير وطبقة القادة، إما من منطلق أن الحكم يجب أن تنفرد به قلة منظمة حتى وإن لم تكن ديموقراطية، وإلا صار ضعيفاً وهشاً، كما أشار موسكا في كتابه «عناصر العلم السياسي»، أو من منطلق أن الديموقراطية ذاتها ستُدفَع في النهاية في اتجاه حكم أقلية مهنية متخصصة، فتتحول بذلك إلى أوليغارية، وفق ما طرح روبرت ميشيلز في كتابه «الأحزاب السياسية». وهذا هو القاسم المشترك بين ظاهرة ترامب والجذور الفلسفية والمعرفية للفاشية الشعبوية، بخاصة أن الرئيس الأميركي المنتخب ينتمي إلى الجمهوريين الذين أعادوا الاعتبار في أدبياتهم الســياسية لمقولات الفلسفة اليونانية في شأن التفرقة بين النخبة والعوام كمقدمة لهجمة على الحريات والحقوق إبان حكم «المحافظين الجدد»، وهو ما ارتكز معرفياً وفلسفياً على أطروحات الفيلسوف الألماني/ الأميركي ليو شتراوس، الذي فكَّك أحد أهم البـــنود التأسيـــسية لليبرالية وهو حق الناس الطبيعي في الحكم. كما هاجم شتراوس ودان بشدة فلاســـفة العقد الاجتماعي كجان جاك روسو وجون لوك. ذلك هو الجزء الغاطس من جبل الجليد في نموذج ترامب وأزمة النخبة الســـياسية التقليدية التي واكبت صعوده إلى سدة الحكم. فنحن هنا أمام عملية حراك نخبوي يفرز فيها المجتمع الأميركي نخبته الجديدة ويلفظ القديمة، إلا أن التجربة التاريخية والتراكم المعرفي للفكر السياسي، أثبتا أن الزعامات الفاشية الشعبوية قد تجسد في لحظات ميلادها التحاماً بالإرادة الجماهيرية التي لم تستطع النخب القديمة فك طلاسمها. إلا أن نماذج ترامب وهتلر وموسوليني تمارس على الجماهير سلوكاً سلطوياً فاشياً إذا تمكنت من توظيف تلك الحالة الشعبوية في الإجهاز علي النخب القديمة. فنكون هنا إزاء انفصال جديد عن إرادة الجماهير وميلاد أوتوقراطية ديموقراطية نخبوية منغلقة تأتي السلطة فيها من أعلى. ومن ثم يمكن القول إن نموذج ترامب بشعبويته ونزوعه الفاشي يجسد حالة صدام عنيفة مع النموذج الديموقراطي برمته تتخفى خلف حراك نخبوي قد يبدو للوهلة الأولى بريئاً ومنطقياً وديموقراطياً. * كاتب مصري
مشاركة :