لا يرنو إلى الماضي إلا من فقد عنصر القوّة، ولا يرنو إلى المستقبل إلا من أجاد ويجيد استخدام عنصر القوّة وتوظيفها في سياقات الممارسة التكتيكية والإستراتيجية، والتطلُّع إلى الأمام، ذلك إنه في الحالة الأولى، يشكل النكوص دائماً عنصر الحنين المحكوم للعاطفة، أما في الحالة الثانية فالحنين أكثر انشداداً لنزوع التقدم وانعتاقاً من أسر الماضي وتشوقاً إلى عشق حاضر يراكم الأمل بمستقبل واعد. وهذا لا يعني القطيعة الكاملة والمطلقة مع الماضي، وإنما انتخاب كل ما هو مشرق ومضيء واستحضاره في نسغ الحاضر، تهيئة للمستقبل. وما ينطبق على المجتمعات ينطبق على الدول، وكذلك على الأفراد، حيث الحنين النكوصي باتجاه الماضي يصادر التطلع نحو المستقبل، فيما يُراكم استشراف الأمل العديد من الأرصدة القابلة للتحويل، وإقامة محطات التغيير الممكنة، على أمداء زمنية متفاوتة. هكذا الاستدارة التركية أو الأردوغانية تحديداً، في النظر إلى الماضي، ليست مجردة من الحنين، كما لا يمكن تجريدها من التطلُّع السياسي بآفاقه الراهنة؛ نحو استعادة «أمجاد» إمبراطورية الخلافة العثمانية، في ظل تطلُّعات «العدالة والتنمية» لاستعادة الموصل وكركوك وجزء من سورية، ليس تلبية لتطلعات الماضي فقط، وإنما استجابة لطموح قطع طريق الأكراد لإقامة إقليمهم. من هنا تحديداً يمكن رؤية التطلع الأردوغاني وحنينه إلى الماضي، حين استعاد في خطاب ما كانت عليه تركيا عبر تاريخها، من قبيل ما ذكره من أن مساحتها كانت في العام 1914 (مليونين ونصف المليون كيلومتر مربع). وفي العام 1923، تراجعت المساحة إلى 780 ألف كيلومتر مربع. لكنّه يعود ليذكر أو ليذكّر «إن تركيا الحالية جاءت من ماضٍ مساحته عشرون مليون كيلومتر مربع». مستدركاً بالقول «إن تركيا وإن لم تستطع في العام 1923 أن تحمي حدود الميثاق المللي عام 1920، فلأن البعض «خلق الأعذار حينها لهذا العجز عن حماية الميثاق المللي. ولكن الآخرين أرادوا بهذه الحدود أن يحبسونا في هذا المفهوم. لذلك نحن اليوم نرفض هذا المفهوم وهم أرادوا أمس، ويُريدون اليوم، أن يجعلونا ننسى ماضينا السلجوقي والعثماني. ونحن لا يُمكن في العام 2016، أن نتحرّك بنفسية 1923». لاحقاً استدرك أردوغان وعاد ليذكر بأن ما يقصده بالماضي التركي إنما هو معطوف على الروح الإسلامية التي تجمع تركيا بكامل محيطها الإسلامي، وهو هنا يختلف في رؤيته للطموح التركي، عن ذاك الطموح الإيراني لابتناء نفوذ إقليمي في المنطقة، يجري توظيفه لاستعادة «أمجاد» النزوع الإمبراطوري الفارسي عبر نظام ولاية الفقيه، وهو يوسع دوره العدواني على امتداد عدد من بلدان المنطقة؛ أو النظام الروسي وهو يرنو إلى استعادة مكامن القوة التي تجسدت في ماضي روسيا القيصرية أو الشيوعية، وذلك عبر إجراء نوع من اختبارات التمدد والتدخل العسكري، الموصول بالشراكة الدؤوبة عبر حلفاء راهنين، يشتركون جميعاً عبر البوابة السورية في محاولة استعادة روسيا دورها كدولة عظمى، لا ينقصها روح التنافس مع تحالف دول الناتو العظمى (الولايات المتحدة) والكبرى (الأوروبية) على الصعيد الدولي، لا سيما أن موسكو تضمن في هذه المرحلة وقوف الصين إلى جانبها، أو على الأقل وقوفها على الحياد، أو مساندتها من تحت الطاولة. هذا في الشرق، أما غرباً فتشكل بريطانيا وفرنسا بؤرة الحنين للاستعمار الكولونيالي، وهما تتعاطيان مع مستعمراتهما السابقة وكأنهما الأب الرؤوم أو الأم الحنون، أو «الشقيق الأكبر» الذي لا يريد أن تغرب شمسه، أو ثقافته التي ما تني تواصل رعايتها لأبناء المستعمرات، حتى في ظل العهود الاستقلالية التي باتت تعيش في كنفها العديد من الأنظمة التي تتباين نسب استقلاليتها بين نظام وآخر. أما النظام الأميركي، وإن اختلف عن أمثاله من الأنظمة الأوروبية، فهو في أعقاب تخلصه من الشعوب الأصلية التي كانت تعيش على الأرض الأميركية المكتشفة، عبر إبادتها والتخلُّص منها ومن ثقافاتها البدائية وإرثها وتراثها التقليدي، تحول إلى ما يشبه أيقونة للمال ولرأس المال والسلطة، كزعيم لما يسمى «العالم الحر»، من دون أن يتخلص من هيمنة الأساطير التوراتية، حين جرى تكييفها لكي تتوافق مع طبيعة الهيمنة المالية والتجارية والاقتصادية وصناعة السلاح والشركات المتعددة الجنسية داخل الحدود وخارجها، في تطبيق لقيم عولمة متوحّشة تتربّع على مستوى القيادة العالمية، كل ذلك باسم «ماضٍ مقدس» جرى اختراعه. على قاعدة هذه الأرضية التي أرستها المؤسسة الحاكمة يجيء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، كمفاجأة ناتجة من التحوُّلات التي انبنت على تراكمات ما صارته الولايات المتحدة، بعد سنوات الإرهاق والتعب وشيخوخة النظام، في ظل الأزمة الاقتصادية المتمادية وتفاعل الأزمات الاجتماعية، ونزعات العنصرية التي تفشت وأثارت سياسات انعزالية، وانكفاء نحو الداخل في أواخر أيام عهد أوباما، ما أنتج ظاهرة ترامب بشعبويته التي نحت بتصويتها له نحو تفضيل سياسات العزلة والانعزال. ويبدو ترامب قبل دخوله البيت الأبيض حريصاً على عدم استفزاز العالم إلا قليلاً، بعد «تصريحات خطب الترشيح» المقلقة التي لا يعول عليها، وهي التي صدمت كثيرين في الداخل وفي الخارج، وهناك من يتوقع ألا يسعى تـرامب إلى تــوريــط أميركا في حروب جديدة، بقدر ما قد تساوره الشكوك، حول نصائح القادة العسكريين الحاليين والديبلوماسيين، في شأن الجهود الأميركية المكلفة في العراق وأفغانستان. لكن الرهان اليوم، بات على ألا يصيب التحوُّل ضمان الولايات المتحدة للوضع الدولي، بما يشكل خروجاً على تقاليد الهيمنة الأميركية التي تكرّست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهذا هو مصدر القلق العالمي الذي يرى في ذلك خروج النظام الدولي إما نحو التفكك وبالتالي سيادة فوضى غير خلاقة، أو عودة انتظامه على أسس متجددة لا تقطع مع الماضي، بل تواصل تقاليد سياسات الهيمنة في الخارج، مع الاهتمام أكثر بسياسات كسب جمهور أوسع في الداخل. باختصار يبدو الحنين الترامبي للماضي الأميركي الأبيض، مزيجاً من التفاعل والانفعال، فهو وحيداً لن يستطيع تغليب سياساته المزاجية، بل إن ماضي المؤسسة وحاضرها سيبقى أكثر قدرة على فرض هيمنته على مجمل سياسات واشنطن والبيت الأبيض، إلا أنه وبعد وقت سيقصر أو يطول، سيصبح الرئيس نفسه واحداً من ممثلي المؤسسة الحاكمة وتقاليدها العريقة، إذ ليس من الطبيعي أن تتحول الولايات المتحدة بقضها وقضيضها وفق رؤية رجل واحد، مهما تكن شخصيته قوية، أو كان فوزه يحمل سمات الطلب على التحول أو التغيير، الناتج عمن خيبة أمل الأميركيين من سياسات الماضي غير السعيد، وهي السياسات التي سبق وأُرسيت من جانب الحزبين الرئيسيين، وليس من جانب حزب واحد. * كاتب فلسطيني
مشاركة :