دخلت أمس حرب الشوارع، التي تشهدها العاصمة الليبية طرابلس، يومها الثاني بين الميلشيات المسلحة التي تتصارع على النفوذ والسلطة، فيما استمرت حكومة الوفاق الوطني، المدعومة من بعثة الأمم المتحدة برئاسة فائز السراج، في غيابها عن المشهد السياسي والعسكري المتأزم، ولم تصدر أي بيانات رسمية. وقال مسؤول أمني في طرابلس، لـ«الشرق الأوسط»، إنه على الرغم من أن مقرات المؤتمر الوطني العام (البرلمان) السابق المنتهية ولايته، بالإضافة إلى حكومة الإنقاذ الوطني الموالية له برئاسة خليفة الغويل، لم تكن ضمن دائرة خطوط النار؛ لكنها كانت على حدوده وفي محيطه، مشيرا إلى أن الأمن الرئاسي انتشر وأخرج سلاحه الثقيل والخفيف، كما فعلت أغلب الكتائب المسلحة التي لا تخضع لسيطرة أي من الحكومات الثلاث، التي تدعي كل منها أنها صاحبة الشرعية الوحيدة في البلاد. وتصاعدت أعمدة الدخان في أكثر من منطقة سكنية داخل طرابلس، بينما شوهد مسلحون يستخدمون قذائف «آر بي جي» بين ممرات المنازل في منطقة باب بن غشير، حيث قال سكان محليون ومسؤول أمني في طرابلس لـ«الشرق الأوسط» إن أصوات الانفجارات لم تتوقف أمس بين الميلشيات التي حشدت أسلحتها الثقيلة، واتخذت مواقع للقتال في أجزاء كثيرة من المدينة. ودعا «الهلال الأحمر» العائلات الموجودة بمحيط الاشتباكات إلى عدم الخروج من بيوتهم إلا بعد وصول عناصره إليهم، بينما قال الدفاع المدني إن الاشتباكات العنيفة التي جرت أمس بشكل متقطع منعته من الوصول إلى مناطق اشتعلت فيها الحرائق بالعاصمة. وجرت اشتباكات عنيفة في أحياء أبو سليم والهضبة، كما اندلعت معارك في محيط مبان تشغلها حكومة الغويل بالقرب من فندق «ريكسوس»، قبل أن تمتد إلى أجزاء أخرى من جنوب العاصمة. وأعلنت «كتيبة ثوار طرابلس»، التي يقودها ضابط الشرطة السابق هيثم التاجوري، أنها سيطرت على منطقة غابة النصر بالكامل المحاذية لمجمع قاعات «ريكسوس» وقصور الضيافة، وقالت إن الغابة ستصبح متنزها وفضاء عاما لكل سكان طرابلس، وزعمت أنها ستسلم غابة النصر لوزارة الشباب والرياضة ولإدارة نادي الوحدة، ودعت المسؤولين والرياضيين القدامى والنشطاء للتواصل معها خاصة. كما عرضت الكتيبة عبر صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» صورا فوتوغرافية، قالت إنها لمفخخات وألغام مجهزة للتفجير عثرت عليها بعد اقتحامها معسكر كتيبة الإحسان التابعة لوزارة الدفاع. وأوضحت الكتيبة أن بداية الاشتباكات تمت مع كتيبة متمركزة في غابة النصر تحوم حولها الشبهات، وتأوي عناصر مريبة من داخل وخارج طرابلس، وتهدد الأمن العام، ثم امتد الأمر لإحدى الفرق التي تتآمر على طرابلس من داخلها وفي أهم أحيائها زاوية الدهماني. وأوضح عمر حميدان، الناطق باسم برلمان طرابلس غير المعترف به دوليا، أن الفوضى الأمنية التي تسود طرابلس الآن، وانقسام الصف والصراع على المكاسب السياسية والمصالح والنفوذ بين أبناء طرابلس، كان بسبب حكومة السراج، التي قال إنها دبرت ما وصفه بانقلاب عسكري، وجاءت مدعومة من قوى خارجية ومحمية من بعض الكتائب من الداخل، مؤكدا أن الوضع جد خطير الآن بين كتائب طرابلس وثوارها، ويهدد بنشوب حرب أهلية داخلها، وأوضح أن المؤتمر الوطني العام وحكومة الإنقاذ، باعتبارهم السلطات السياسية الشرعية، يبذلون، بتواصل مع أعيان وحكماء طرابلس، جهدهم لوضع حد لإنهاء هذه الأزمة وإطفاء جذوة الصراع بين ثوار طرابلس. إلى ذلك، نفت إدارة مطار معيتيقة الدولي بطرابلس توقف الرحلات الجوية، مشيرة إلى أن الأوضاع طبيعية بالمطار ومحيطه، ولا صحة لما يشاع عن إخلاء المطار من الطائرات. لكن جامعة طرابلس أعلنت تأجيل الدراسة فيها إلى الأسبوع المقبل، وسط حالة من الترقب تسود المدينة التي كثيرا ما تدور اشتباكات فيها بين الفصائل المسلحة التي تمسك بزمام السلطة الفعلية. ويسيطر على طرابلس خليط من الجماعات المسلحة، التي يتمتع بعضها بوضع شبه رسمي. وغالبا ما يندلع القتال بسبب الصراع على النفوذ، أو لشن هجمات انتقامية، في حين أن الجماعات المسلحة مقسمة أيضا بين تلك التي تساند الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة، وأخرى تعارضها. وإلى جانب الدوافع السياسية، هناك خصومة بين مجموعات متشددة من جهة، ومجموعات أخرى مناهضة لحكومة الوفاق الوطني وموالية لرئيس دار الإفتاء الشيخ المثير للجدل الصادق الغرياني، من جهة ثانية. وقد تصاعد التوتر بين الجهتين منذ إعلان دار الإفتاء الليبية مقتل أحد أبرز أعضائها الشيخ نادر العمراني، الذي خطف قبل أكثر من شهر من أمام مسجد في طرابلس في ظروف غامضة. من جهته، دعا مجلس النواب، الموجود بمدينة طبرق في أقصى الشرق الليبي، إلى ضرورة إخراج الميليشيات المسلحة من طرابلس، مشيرا إلى أن هذه الميليشيات تستخدم كل أنواع الأسلحة الثقيلة والمتوسطة؛ بل حتى الدبابات وسط الأحياء السكنية والشوارع والمقار والمؤسسات العامة والخاصة، مروعة الشيوخ والنساء والأطفال من المدنيين العزل. وناشد رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح جميع العقلاء والحكماء في طرابلس والمنطقة الغربية إلى سرعة التدخل للحفاظ على أرواح الناس في طرابلس وعلى الممتلكات العامة والخاصة. ومن جانبها، هددت الحكومة الانتقالية، الموالية للمجلس برئاسة عبد الله الثني، بأنها ستلجأ إلى استخدام جميع السبل المتاحة لدعم الجيش، منددة بما وصفته بالصمت المخزي للمجتمع الدولي والموقف المكشوف من الدول الداعمة والراعية للإرهاب، الذي يستمر في العبث بالأرواح تجاه ما تشهده العاصمة طرابلس على مقربة من مقر ما يعرف بالمجلس الرئاسي من اشتباكات بجميع أنواع الأسلحة، لجماعات خارجة عن القانون، معتبرة ذلك انتهاكا صارخا لكل الأعراف والمواثيق الإنسانية والدولية، وضربا لكل القرارات، التي صدرت عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، عرض الحائط، ووضع مصداقيتهما على المحك أمام شعوب العالم قاطبة. كما لفتت النظر إلى اختفاء كل مظاهر الحياة المدنية داخل طرابلس، التي لم يعد يسمع فيها سوى صراخ النساء والأطفال، ولم يعد يشتم فيها إلا رائحة الموت. في المقابل، أعرب رئيس بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، مارتن كوبلر، عن جزعه البالغ إزاء المواجهات الجارية في طرابلس، وناشد القوات المنخرطة في أعمال العنف هناك أن توقف القتال فورًا، وأن يتم تغليب صوت الحكمة. وقال كوبلر، في بيان وزعته البعثة الدولية، إنه «من غير المقبول على الإطلاق أن تتقاتل الجماعات المسلحة لفرض مصالحها وسيطرتها، وبخاصة في المناطق السكنية، حيث أدى ذلك إلى ترويع السكان»، مؤكدا ضرورة تنفيذ الترتيبات الأمنية الواردة في الاتفاق السياسي الليبي لتخليص المدن الليبية من الجماعات المسلحة، واستعادة النظام والأمن لشعب ليبيا. وبخصوص الأوضاع المضطربة في طرابلس، قال بيتر ميليت، السفير البريطاني لدي ليبيا، في تغريدة له عبر موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، إنه قلق بشأن ما سماه الاشتباكات العنيفة في طرابلس، معتبرا الشعب الليبي يستحق العيش في بلاده بسلام. فيما أعربت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان لها عن قلقها من تصاعد العنف بين المجموعات المسلحة في طرابلس، مشيرة إلى أنها على اتصال بالسراج وتدعم جهوده لاستعادة سلطة الدولة وبخاصة في طرابلس. من جهة أخرى، قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن مقاتلي تنظيم داعش أصبحوا لا يسيطرون سوى على منطقة صغيرة جدا في معقلهم السابق في مدينة سرت الليبية، إذ قال المتحدث باسم البنتاغون، كابتن البحرية جيف ديفيس، إن المتطرفين المتبقين «قلة ولكنهم صامدون ويقاتلون حتى الموت»، ووصف المنطقة التي يسيطرون عليها بأنها «منطقة عنيدة.. وهذه آخر معاقل (داعش) في سرت وهم يقاتلون بضراوة». وكان التنظيم يسيطر على المدينة المتوسطية بالكامل حتى الصيف الماضي، مرسخا وجوده في ليبيا. وقد بدأت الولايات المتحدة حملة قصف في أغسطس (آب) الماضي بطلب من الحكومة الليبية المدعومة من الأمم المتحدة لمساعدة القوات المحلية على استعادة المدينة بعد أكثر من عام على سيطرة التنظيم المتطرف عليها. ورغم أن العملية استغرقت أطول من المدة اللازمة بأشهر؛ فإنها قلصت سيطرة التنظيم على المدينة، وأصبح لا يسيطر سوى على نحو خمسين مبنى فيها. وسيمثل سقوط سرت، مسقط رأس العقيد الراحل معمر القذافي، ضربة قوية للمتطرفين الذين يواجهون سلسلة من النكسات وهجمات واسعة في سوريا والعراق. وشنت المقاتلات والطائرات من دون طيار والمروحيات الأميركية 467 غارة منذ بدء العملية الجوية مطلع أغسطس الماضي. وغادرت السفينة العسكرية البرمائية «يو إس إس واسب» وكتيبتها من الطائرات المقاتلة التي شاركت في الضربات الأولية، وتستخدم القوات الأميركية الطائرات من دون طيار لشن الضربات الجوية حاليا.
مشاركة :