يشكل الخيال المساحة اللا متناهية التي تجد فيها الشعوب حريتها لإطلاق أحلامها ومشاعرها وأمنياتها ومخاوفها، فعلى سبيل المثال تشكل حورية البحر عند بعض الشعوب البعيدة مصدر إلهام للمتخيل الجميل في بيئتهم، وكان وما زال الأطفال والكبار في تلك المجتمعات يحلمون يوماً أن تظهر لهم حورية جميلة على شاطئ البحر، وتمثل الحورية السمكة أيضاً رمزية «الأنثى» في جمالها وأنثويتها الطاغية كمرآة لخيال الإنسان في البيئة التي غلبت عليها أفكار الرخاء وأبعاد الجمال والحسن.. بينما يقابلها في خيال بيئة القسوة والخوف، «حمار القايلة»، الذكر الذي ينشر الرعب بين الأطفال، وقد يستغرب البعض هذا الربط، لكنه بكل تجرد يمثل تلك الصورة النقيضة لحورية البحر في البيئة القاسية، لكن الاختلاف بينهما أن خيال حورية البحر أخذ أبعاداً جمالية في مختلف الاتجاهات، وكان مصدر إلهام رائع لنسج القصص الأسطورية حولها وصناعة أفلام الخيال العلمي، بينما طوى النسيان رمزية الحمار المرعب.. وصلت أسطورة حورية البحر إلى الفقه الديني، وقد صدرت فتاوى في حكم أكلها، وقال بجواز أكلها مفتون قدماء ومعاصرون، وقد كانت الفتاوى تتحدث عنها على أنها حقيقة علمية مطلقة، بينما هي أساطير، وقد ظهرت أول قصص الحوريات البحرية عام 1000ق.م، عندما أحبت أتارجاتيس أم الملكة الآشورية سمير أميس، أحد البشر ثم قتلته بغير قصد، فخجلت من فعلتها، فألقت بنفسها في البحيرة لتصبح على شكل سمكة، لكن المياه لم تخف جمالها الأخاذ، وأخذت صورة حورية، إنسانة فوق الخصر وسمكة تحت ذلك.. بينما ظل حمار القايلة أسيراً لخرافة الجهل والماضي القاسي، ومورست ضده شتى أنواع الإقصاء، ولم تصاحبه أساطير عن هيئته، وأن نصفه الأعلى في صورة رجل، وتروي ظهوره في أحد قوائل النهار الحارة في القيظ الشديد، ولم يكن في يوم من الأيام مصدر إلهام للخيال العلمي، برغم من أنه يشكل أحد مكونات ظاهرة الخيال عند الأطفال في عصور خلت من عاقبة الخروج في وقت الظهيرة القاسي.. ربما يعود الأمر لخلفية المخيال البشري خلف ظهور الأسطورتين، فحورية البحر تمثل الرمز الممتع والإيجابي للمخيال الجمالي للمرأة في عقل الرجل في حضارات ما وراء البحار، بينما يمثل خيال حمار القايلة تلك الصورة السلبية المشوهه للرجل عند الأنثى في بيئة الجفاف، ولم يحتكر حمار القايلة رمزية الشر الذكوري في تلك البيئة، فقد شاركه العفريت والغول والشياطين. بذلت قصارى جهدي في البحث عن مصادر لحمار القايلة، تتناول شيئاً من أسطوريته وخلوده في الذاكرة القاسية، فلم أجد!، وبحثت أيضاً عنه في كتب الفتاوي، على شاكلة ما هو حكم أكل أو ركوب حمار القايلة؟، ولم أجد!، بينما تكررت في كتب الفقه أحكام شتى ومتنوعة عن أسطورة حورية البحر الجميلة.. هي دعوة لإعادة الاعتبار لأسطورتنا غير الجميلة، وكم أتمنى أن يكون له وجود في عالم الرسوم المتحركة المحلي، ومحاولة «تمليح» تلك الصورة الذهنية القاسية عنه، فالأمور تغيرت كثيراً بعد ثروة النفط، إذ لم يعد المشي في «القوايل» عادة عند أطفال هذا العصر، ولم يعد الرجل في الغالب رمزاً للرعب والشر في هذا الزمن، وقد حان الوقت لاستعادة حمار القايلة، ليكون رمزاً لماضي، نتمنى ألا يعود..، عمتم صباحاً..
مشاركة :