صانع المعجزات وقاهر القلوب معاً

  • 12/6/2016
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

المترو في القاهرة هو مثال حي صغير لها، ترى فيه كل الأشكال والألوان، كل الأحوال والصفات، يموج بالحركة ويموج معه الناس بهمومهم وأفراحهم وأتراحهم، تعودت منذ زمن كلما دخلت موجه الهادر أن أراقب الناس، أنظر لهذا وذلك، ويستهويني أكثر منظر المحبين الصغار الذين يمتلئ بهم مترو القاهرة. ذات مرة لفت نظري شاب وفتاة في مقتبل العمر، أظنهما طالبين بالجامعة، الفتاة جميلة من النوع الذي لا يختلف على جمالها أحد، أما الشاب فوسامته أقل من المقبول، ولكني لاحظت إصابته، يبدو أنه للتو خارج من شجار، فآثار اللكمات والصفعات لا تزال جاثمة على وجهه وبعض آثار الدم على ملابسه ويمشي متكئاً عليها! نعم على الفتاة، التي تمشي بجواره وتحيط وسطه بيدها تسنده وتساعده على الحركة. ما إن دخلا محطة المترو حتى تحركت مسرعة وأسندته على الحائط، ومشت نحونا تطلب من أحدنا أن يقف له من على مقعد المحطة حتى يجلس؛ لأنه متعب، وقفت له أنا وآخر فما هذه التي يُرفض لها طلب، أجلسته وجلست بجواره، خُيل لي أن الشجار بسببها، ظننت أن أحداً ما عاكسها أو شاكسها -فجمالها من النوع الذي يُلتفت الانتباه ويجذب الأعين، هذا الجمال الرائع البسيط الخالي من أدوات الزينة، اللهم إلا اليسير- فانتفشت رجولته وثارت غيرته ودخل في مشاجرة دفاعاً عنها وعن رجولته المغدورة. ما لفت انتباهي أكثر نظرات الرعب والقلق البادية في عينيها الجميلتين الوادعتين، يبدو أنها كادت تموت رعباً على الجالس بجوارها، لأول مرة في حياتي أرى نظرات رعب بهذه الطريقة في عين أحدهم، ولقد قال "الرافعي" قديماً عن نظرات المرأة لمن تحب: "متى نظرتِ المرأةُ إلى رَجُلٍ تُعجَبُ بهِ كانتْ نظراتُها الأولى متحيرةً قلقةً غيرَ مُطْمَئِنَّةٍ، معناها: هَلْ هُوَ أَنْتَ؟ فإذا داخَلَها الحبُّ، واطمأَنَّتْ، جاءَتْ نظراتُها مُسْتَرْسِلةً، متدلِّلَةً، مُتَأَنِّثَةً، معناها: هُوَ أَنْت"، وأعتقد أن هذا الكلام لا ينطبق على نظرات الحب فقط، بل على كل نظرات الأنثى العاشقة، نظرات القلق والخوف، نظرات العتاب والحزن، نظرات الغضب والكبت، كل النظرات بين المحبين لها نفس منطق الرافعي مع تغيير التعابير. الفتاة لم تكتفِ بكل هذا، فما أن توقف المترو في المحطة حتى اندفعت سابقةً حبيبها توسع له مكاناً في ازدحام المترو، تحميه من الاصطدام بهذا وذاك، رغم ضآلة حجمها، قامت بالدور الذي كان من الطبيعي أن يقوم به هو في مثل هذه الظروف، أن يحميها من تحرشات واصطدامات المارة في وسط هذا التكدس من اللحم البشري في ساعة ذروة. غابا عني بعد ذلك في هذا الازدحام، ولكن ظلا يشغلان تفكيري، وما شغلني أكثر نظرات الفتاة القلقة، ما زلت لا أستطيع نسيانها، وكأنني أخذت صورة فوتوغرافية لها، أو كل هذا القلق والقوة يحدثها الحب؟ وقديماً قال الشاعر بهاء الدين زهير: أنا في الحب صاحب المعجزات ** جئت للعاشقين بالآيات فترة الشباب تكون كل الأمور فيها بعنف وقوة، حتى الحب يكون فيه في عنفوان وشدة، دون النظر للعواقب والمآلات، ثم طافت بي الدنيا وتساءلت نفسي عما سيؤول إليه مصير هذين العصفورين الصغيرين بعد أربع أو خمس سنوات، لو استطعت أن أقود آلة الزمن أو أعرف القدر، هل سأراهما زوجين سعيدين أم أراهما كلَّ واحد فيهما في طرف من الحياة متنافرين، فالحياة لها تصاريفها. فهو قد تقهره الدنيا بمتطلباتها بحثاً عن العمل والرزق، أو قد تصطاده آلة التجنيد العسكري الإجباري التي لا تترك أحداً من الشباب منذ ثورة يناير/كانون الثاني إلا ودخل مفرمتها واكتوى بنيرانها، وهل تنتظره هي وتصبر عليه؟ أم تقاوم حتى تضعُف قواها وتستسلم لضغوط أهلها؟ أم تظل تقاوم وتحارب حتى تفوز به؟ وهل لو فازت به سيعيشان معاً حياة سعيدة هانئة؟ أم ترى الدنيا تفعل معهما فعلتها الدنية؟ هل تريح رأسها وتبحث بعقلها عن الشاب الغني ذي المال القادم من بلاد الرز الخليجي أو ابن الحسب والنسب؟ أتراها تفضل الحياة الممتلئة بالمال على الحب، فالحب -كما يقولون- قد يأتي مع الأيام، أو لا يأتي لا يُهم، فالأهم أن تركب السيارة وتلبس ما يحلو لها من أفخر الثياب وتعيش في رغد المال، ولماذا نفرض الغدر من الفتاة فقط؟ فهو قد يتركها مع أخرى أجمل وأخف دماً، تلعب برأسه وتكسبه لها، فيتركها لاهثاً وراء ملذاته، فتصاريف القدر لا يعلمها أحد، ولعبة الحياة كثيراً ما تكون غادرةً ماكرةً، وهذه حِكَمُ الله التي لا يعلمها إلا هو، ولا يُسأل عنها كذلك. دعك من كل هذا الحزن والغدر، ولنرجع لذلك الغامض صانع المعجزات كما يقولون، "الحب: قوة جامحة، عندما نحاول التحكم به فإنه يدمرنا، عندما نحاول أن نسجنه فإنه يستعبدنا، عندما نحاول أن نفهمه فإنه يترك مشاعرنا تائهة ومشتتة"، كما يقول "باولو كويلو"، في روايته "زهير"، هو شيء غامض لا تستطيع أن تتحكم به أو تُمسك بتلابيبه، لماذا هذا الشخص وليس ذاك؟ لماذا هذا الشكل وليس ذلك؟ لا تعرف ولا تريد أن تعرف فقط أنت تريده وكفى، "خلاصة التجارب كلها في الحب أنك لا تحب حين تختار ولا تختار حين تحب، وأننا مع القضاء والقدر حين نولد وحين نحب وحين نموت"، كما يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد. هو في نظرك أجمل المخلوقات على الإطلاق، ولو كان غير ذلك، فهو الأجمل والأعظم والأكثر خلقاً وعفافاً وزهداً وحباً، تحاول أن تقنع نفسك بكل هذا، تبذل كل جهدك لتوسد عقلك على ذلك، "أنت لست جميلاً ولا أنا جميلة، الحب وحده هو الجميل، والحب وحده يُرينا الجمال"، كما يقول بهاء طاهر، في رواية "نقطة النور" على لسان لُبني. أعتقد أنه من مرّت عليه الحياة دون أن يشعر بحب أو يقع فيه أنه خسر شيئاً ما في حياته، لم يلامس جوهر الحياة، لم تغص نفسه في أغوار الدنيا، فالحب طاقة تلون حياتك بلون زهري جميل، وللأسف قد تكون ناراً تحرق حياتك وقلبك، فالحب هو هذا المتناقض الغريب، وكان محقاً باولو كويلو، حينما قرن الحب بالمعاناة، فكثيراً ما يوصل أحدهما للآخر، كما هي التفاعلات الانعكاسية في الكيمياء، "أمران فقط يمكن لهما أن يكشفا أسرار الحياة العظمى: المعاناة والحب" باولو كويلو في رواية "ألف". هذا هو الحب صانع المعجزات وقاهر القلوب في آن واحد، المثبط والمحفز معاً، والحب هو نافذة النفس على لذة الدنيا، أو قد يكون العكس، "لا قيمة للحياة من دون عشق، لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي، فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات، ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف، إنه كما هو نقي وبسيط، العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء" هذا ما قالته "إليف شافاق" في القاعدة الأربعين من "قواعد العشق الأربعين". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :