"السبيليات" سيرة امرأة تحلم بزوج غائب في الحرب بقلم: علي حسن الفواز

  • 12/7/2016
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

إسماعيل فهد إسماعيل، كأنها “سيرة أديسيوسية” تحمل معها قسوة المحو، وشفرات المكان المستعاد، إذ يتبدى إيهام التخييل بوصفه مفارقة، وعند هذه العتبة الموحشة يحاول المؤلف أنْ يتقصى مستويات لعبته السردية، حيث انشطار الأمكنة مقابل وحدة الشخصية الساردة، وحيث رحلة البحث عن المفقود مقابل التدفق والحرية للذات الساردة وهي تعيش شغف الرحلة. تستغرق البطلة، زمنا طويلا، وهي تساكن شغف لحظة توهجها، ولذة إشباعها عبر طقوس بحثها عن رفات زوجها أبي قاسم، وعبر ما تُصيّره دالات المكان/ السبيليات، إذ تحملها معها -الرفات والذكرى- وكأنها حافز جنسوي ينطوي على الاستغواء، وعلى ما يشبه سردنة الواقعي السحري. تندرج عتبة الاستهلال في الرواية، الصادرة عن “نوفا بلس للتوزيع والنشر” سنة 2016، في سياق التوصيف الواقعي للأحداث، ولعلاقة الكاتب الإيهامية مع حكايتها، وكأن سيرة أم قاسم، هي سيرة ترصدها عين الكاميرا، أو ما يدوّنها الصحافي في ريبورتاجه عام 1988، عام نهاية الحرب العراقية الإيرانية، خلال زيارته للمنطقة مع وفد إعلامي عربي للاطلاع على الدمار الذي خلّفته تلك الحرب. سيرة أم قاسم هي السيرة الوجودية للحرب، إذ هي سيرة الفقد الإنساني، مثلما هي جوهر العلاقة الغائرة بالمكان المفقود، لكنها أيضا تمثل نظرة المؤلف/ الكاتب لوحشية الحرب، وليومياتها الفاجعة. هذه النظرة لا تعني تغييبا للواقعي والمباشر، بل هي محاولة في إعادة تدوين التاريخ المضاد للمكان الحربي، إذ تحضر صورُهُ الشاحبة أو ما تبقى منه. ولعل التفصيل الاستذكاري في السياق الروائي يضعنا أمام توصيف بصري لتلك الصور ولأثرها، ولعلاقة هذا الأثر بهواجس الشخصية الرئيسية، حتى تبدو سردنة الاستعادة وكأنها استعادة كاملة للحياة عبر أنسنة تفاصيل المكان، فالبيوت التي أفرغتها الحرب، بعد أنْ أصدرت القيادة العراقية في بيان مُلزِم “مطلوب من الأهالي كافة إخلاء منازلهم خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام”. تحضر بوصفها مادة السرد الفاعلة، حيث تحفل بحيوات صغيرة، لها سيميائيات وجودية وأيروسية عبر البحث عن الماء، وعبر حلم أم قاسم بزوجها واتصالها بالآخرين عبر نبوءاته الليلية، ولها “حيل سردية” تتبدّى عبر أنسنة المكان والموجودات؛ الحمار قدم خير، والبيوت العامرة بالمؤونة، والمدافن المقدسة التي تبدو مقترحات لتجاوز الفقد، ولاستعادة الوجود. المكان الغائب تُحيل عتبة العنوان إلى المكان الواقعي، لكنها تنطوي أيضا على فضاء للتخييل، وعلى ما يحفل به من خصوبة غائبة، فالحكي عنه يستثير الإغراء، ويُفضي إلى الاستيهام، إذ تتحول البطلة إلى ساردة كاشفة داخلية للأحداث عبر الأمكنة، حيث تقوم بوظيفة التسلل إلى سرائرها، تنتشلها من الغياب إلى الحضور، ومن التوحش إلى الأنسنة، فاختيار المكان/ السبيليات بوصفه مكانا مُقترحا من الروائي/ المؤلف يتعالى على واقعيته، إلى ما يشبه “السرد الإروائي” حيث كل الأشياء والتفاصيل تستدعي فكرة الخصب، وهي بنية راشحة، تُعبّر عن نفسها عبر التوصيف، وعبر الحوار، وبما يجعل “المكان الحلمي” الذي تعيش ذاكرة حيواته دالّا على سحر الحياة التي غيّبتها الحرب، إذ تتبدّى التفاصيل وكأنها مؤنسنة، وأنّ أنساقها الحكاية أكثر تمثلا لهذه الأنسنة بدءا من “تسحير” روح زوجها الذي يأتيها كل ليلة بنبوءة، وليس انتهاء بحكاية الحمار (قدم خير) الذي يرافقها في رحلة عودتها الأوديسية. التحديق في المكان الغائب لعبة سردية تقوم على فكرة الاستعادة، حيث يتحوّل إلى طاقة رمزية لتوسيع زخم السرد، وللكشف عمّا هو عميق في روح المكان، فالرحلة هي المجسّ السردي لتفجير الأحداث، ولأسطرتها، وللإيهام بأنّ الكائن هو ابن الأمكنة وهو ضحيتها أيضا، وأنّ “سيكولوجيا التعويض”، كما يُسمّيها الناقد محمد صابر عبيد، تُحفّز دينامية السرد على المزيد من اصطناع الأحداث الموازية. تنطوي رحلة أم قاسم في المكان إلى رحلة إيهامية لاستدعاء الغائب، عبر تمثلات الجندي جاسم الذي يشبه ابنها قاسم، وعبر مجاورة تفاصيل الأمكنة الأثيرة، وعبر التحديق في حكاياتها، وبما يجعل لعبة السرد في الرواية وكأنها تجوهرٌ حول التعويض، وبالقدر الذي يُشبع غرائزها إزاء الفقد الأيروسي/ المجاورة مع رفات الزوج، وإزاء الحاجة إلى المقدس/ الدخول إلى نهر ومقام السيد رجب، وإزاء العطب/ حيث مجاورة الماء/ الخصب ونخلة تمر البرحي، وحتى تفقّد بيوت الجيران الفقراء والأغنياء لا تعدو أن تكون محاولة في التلصص على عالم تكتشفه لأول مرة، وتدرك من خلاله أنّ للحرب وجوها أخرى، وأنّ الحرمان والفقد هما أكثر وجوهها قسوة وبشاعة. السارد العليم تحمل الرواية طابع رواية المؤلف، والذي يضع حكاية أم قاسم، بوصفها حكايةً تخصُّ أمكنته الغائبة والحميمة، إذ تتجلى عبرها هواجس الافتتان بالحكي عبر أسطرة الشخصية الرئيسية، حتى تبدو وكأنها الصيغة التي يحفر من خلالها الروائي في الأحداث، وأن يضعنا أمام زمن مُستعاد تُهرس فيه الموجودات عبر الحرب بالفقدان، وأنْ يجعل من الشخصيات الساندة مجالا تعبيريا لتوسيع إطار السرد، ولتبئير فعل الروي إزاء فكرة الغائب، وإزاء ثيمة الحرب والتمثّل السيميائي للغياب الذي تتبدى علاماته وشروخه على الكائن والمكان والزمن. فالأولاد، وشخصية نائب الضابط صادق والملازم عبدالكريم والجندي مازن جزء من إدارة الأحداث، وأن دينامية وجودهم رهين بوجود الأم، إذ يخضع رسم تلك الأحداث عبر حركتها، وعبرعفوية سلوكها وهي تبحث في الأمكنة الموحشة، وتستعيد وجودها من خلال ما يتجلى من وجود للآخرين الذين تركوا بيوتهم بعد البيان المُلزِم، والذين تحولوا إلى ضحايا أيضا بوصفهم يعيشون كذلك فكرة الغياب. :: اقرأ أيضاً الريادة المسرحية تنحسر في المغرب وتنتقل إلى المشرق فن الكوميكس في تظاهرة ثقافية بالقاهرة الأردن يتحدى بالقراءة في معرض شتائي للكتاب مكناس تحتفي بمرور 20 سنة على إعلانها تراثا عالميا

مشاركة :