شاهدي بانكس – بروان فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها. تعمل في مجال الفنون المسرحية، متزوّجة، وتعيش في لندن. وهكذا، تبدو حياتها «مستقرة» إلى حد كبير. لكن هذا الاستقرار، وهو استقرار فعلي، لم يأت إلا بعد عناء مرير، كاد يدمّر حياتها. فهي، ككثر غيرها من سكان العاصمة البريطانية، تنتمي إلى أسرة مفككة. أنجبت أمها أربعة أولاد من علاقتين برجلين مختلفين، وهي كانت لا تزال طفلة صغيرة عندما هجر أبوها أمها. نشأت شاهدي بالتالي مع أم تعاني كي تعيل أولادها لوحدها. تعمل عاملة نظافة، ولا تتقاضى سوى راتب زهيد بالكاد يسدّ رمق جياعها. وفي مثل هذه الظروف، ربما لم يكن غريباً المسار الذي سلكته شاهدي في فترة مراهقتها. بدأت تتعاطى المخدرات، وعاشرت صديقاً أكبر منها يعمل تاجر مخدرات. فشلت في دراستها، ونالت عشرات العقوبات التأنيبية، بما فيها الطرد من المدرسة. وإذا كان كل ذلك لا يكفي، قامت أمها بطردها من المنزل، وطلبت منها ألا تعود إليها. صارت شاهدي مشرّدة، تبحث عن أي مكان يؤويها. لكن ذلك لم يكن سهلاً. ربما لو كان لديها طفل صغير لكان ذلك قد سهّل إيجاد شقة صغيرة تؤويها، لأن المجالس البلدية في لندن تعطي الأولوية للأم العازبة «المشرّدة» على غيرها عندما تنظر في طلبات تأمين السكن الطارئ للمحتاجين. ولحسن حظها، كما يبدو، دلّها شخص على مركز «سنتربوينت» الخيري في ضاحية كامدن بشمال لندن، حيث تم إيواؤها ومساعدتها للابتعاد عن طريق المخدرات وبناء حياتها من جديد، وهو أمر يبدو أنها قد نجحت فيه حالياً. تروي شاهدي قصتها هذه لقاطني مركز «سنتربوينت» حالياً بهدف تشجيعهم على بناء حياتهم وعدم الاستسلام لواقعهم، كما فعلت هي نفسها من قبل. وفي حين يعتني هذا المركز وغيره من مؤسسات الرعاية بمئات المشردين في لندن، إلا أن مئات غيرهم يعيشون في العراء بملابس رثة، يفترشون ناصيات الطرق أو زوايا الحدائق العامة ومداخل الشركات الكبرى، حيث يبنون «أكواخاً» مصنوعة من صناديق الورق المقوّى يبيتون فيها ليلاً قبل إخلائها فجراً مع بدء الموظفين في الالتحاق بأعمالهم. وإذا كانت أوضاع هؤلاء مزرية في شكلها الحالي، فإنه يُتوقع أن تزداد سوءاً خلال فصل الصقيع والثلوج مع بلوغ الشتاء ذروته خلال الأسابيع المقبلة. وشكّل عمدة لندن، صادق خان، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي فرقة عمل خاصة لمعالجة أزمة المشرّدين الذين يعيشون في العراء في شوارع العاصمة البريطانية، بعدما أظهرت أرقام جديدة ارتفاعاً كبيراً في أعدادهم. ووفق هذه الأرقام، بلغ عدد الذين يعيشون في العراء في لندن 8096 شخصاً، في ارتفاع نسبته 7 في المئة مقارنة بالعام السابق. ولم يكن عدد المشرّدين في لندن في العامين 2009 – 2010 سوى 3670 شخصاً، ما يدلّ على أن هذه الظاهرة تتنامى في شكل مخيف. وتبني خطة خان لمعالجة أزمة المشرّدين على خطة مماثلة أطلقها سلفه بوريس جونسون قبل انتقاله إلى وزارة الخارجية، وهي تركّز على العمل مع المؤسسات الحكومية والشرطة والجمعيات الخيرية في خمس بلديات تشهد أكبر ارتفاع في أعداد المشرّدين فيها، وهي بلديات وستمنستر وكامدن ولامبث وتاور هاملت وسيتي. ويُعد بعضها من أرقى بلديات لندن ويقع فيه أهم المراكز السياحية (مثل وستمنستر) والمالية (مثل حي المال والأعمال في سيتي). وإضافة إلى ضرورة العناية أخلاقياً بالمشرّدين ومساعدتهم، ترغب سلطات لندن بلا شك في إيجاد حل لهذه المعضلة كونها تشوّه صورة العاصمة البريطانية أمام السياح الأجانب. وسلطات البلديات في لندن لا توفر دائماً مسكناً للمشرّدين جميعهم، بل هي ملزمة فقط بالبحث عن مقر سكن لمن تنطبق عليه معايير معينة تؤكّد أنه يعيش في الشارع ولا مكان آخر يؤويه، علماً أن البلديات في عموم إنكلترا تتلقى كل سنة «عشرات آلاف الطلبات» للحصول على مساعدة إسكان تحت خانة «المشرّدين». وكي ينطبق على شخص ما المعيار القانوني للمشرّد، عليه أن يثبت أنه لا يستطيع تأمين مكان يؤويه ولا يستطيع البقاء في المكان الذي يؤويه حالياً. وتعطي البلديات الأولوية هنا للأسر التي لديها أولاد. وبلغ عدد الطلبات المقدّمة لكل البلديات في عموم إنكلترا للحصول على مساعدة تحت بند «المشرّدين بلا مأوى» 114790 طلباً خلال العامين 2015 – 2016، في ارتفاع 11 في المئة مقارنة بالعامين 2010 – 2011. لكن الطلبات التي قبلت على أساس أن «حاجتها لها الأولوية» بلغت 57750 طلباً لمشرّدين، في ارتفاع 6 في المئة مع العامين 2014 – 2015، ما يشير إلى أن ظاهرة المشرّدين بلا مأوى تتعمّق في إنكلترا كلها وليس فقط في لندن. وإذا كانت هذه الأرقام مثيرة للإحباط، فإن قصة شاهدي بانكس – براون تؤكّد أن النهاية للمشـــرّدين قد لا تكــــون مأسوية بالضرورة. ففي حديثها مـــع نزلاء مركز «سنتربوينت» في كامدن، شرحت كيف أنها لم تتمكن من تأمين مـــركز سكن على حساب البلديــــة عندما طــــــردتها أمهـــــا من البيت إلى الشارع. وقالــت: «عندما تكون محشوراً في الزاوية فإنـــك تقوم بأي شيء للبقاء حياً. أعرف فتـــيات ذهبن لمعاشرة شبان من أجل قضاء ليلة في منزلهم (بدل العيش في العراء). أو يمكنك أن تذهب للعيش في مقـــر لتعاطي المخدرات، ثم تقول بعد أيام هناك: لماذا لا أجرّب أيضاً تعاطي المخدرات؟ لم يكن هـــناك ما يمنعني من بيع المخدرات أو سرقــــــة بيـــت، لكنني قــررت أن هذا ليس الطـــريق التي أريد أن أسلكها». عسى أن تساعد قصتها هذه مئات المشرّدين مثلها على التأكّد من أن هناك أملاً لهم في نهاية الطريق.
مشاركة :