كوبا بعد كاسترو تنتظر رياح «واشنطن ترامب»

  • 12/10/2016
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في خضّم المعارك التي كانت ما زالت دائرة في هضاب سييرا مايسترا بين القوات الحكومية والثوار في حزيران (يونيو) ١٩٥٨، وجّه فيدل كاسترو رسالة إلى مساعدته سيليا سانتشيز جاء فيها: «...يوم تضع هذه الحرب أوزارها ستبدأ حرب أطول وأقسى... الحرب التي سأخوضها ضد الأميركيين، والتي ستكون مصيري الحقيقي». وفي أواخر ذلك العام والثورة على مشارف النصر النهائي تستعد للدخول إلى العاصمة، تملّكت الدهشة عدداً من معاوني فيدل عندما سمعوه يقول: «... سأعدمه حالما نصل إلى هافانا... لا يهمني كونه شقيقي، سأعدمه». المقصود كان شقيقه راوول، الرئيس الحالي، والسبب كانت الرسائل التي كان يتبادلها مع أرنستو تشي غيفارا، وتبيّن من بعض ما تسرّب منها أن الهدف من الثورة كان إقامة نظام اشتراكي ماركسي-لينيني، خلافاً لما كان يعتزمه فيدل الذي كتب يوماً لأحد أصدقائه يقول: «أكره الإمبريالية الأميركية بقدر ما أكره الإمبريالية السوفياتية. لسنا هنا لنناضل من أجل القضاء على ديكتاتورية لكي نقع في أخرى». تبيّن هذه الوقائع التاريخية كم كان فيدل كاسترو استشرافياً وثاقباً في تحليلاته السياسية عندما ربط مصير الثورة بعلاقتها مع الولايات المتحدة، أي بمداها الجيوسياسي المحتوم الذي اعتملت في رحمه، وعاشت وتكيّفت على وقعه، وما زال مصيرها مرهوناً به. ولذلك فإن أي تحليل موضوعي أو تقويم لمسرى الثورة الكوبية لا يستقيم خارج إطار هذه العلاقة وتدرجاتها، كما يتعذّر استقراء مستقبلها إلا في ضوء السياسة الأميركية، خاصة مع الإدارة الجديدة بقيادة دونالد ترامب الذي وعد المعارضة الكوبية، التي ساعدته أصواتها على الفوز الحاسم في ولاية فلوريدا، بإلغاء التدابير الانفتاحية التي رافقت خطوة أوباما التاريخية بإعادة العلاقات الديبلوماسية بين واشنطن وهافانا. كانت الثورة الكوبية في بداياتها تضّم مجموعة من الحركات السياسية المتباينة التي لا يجمع بينها سوى الشعور القومي العميق والعداء السافر للإمبريالية الأميركية. وعلى رغم انتماء فيدل منذ مرحلة دراسته الجامعية إلى تنظيم شبّان الحزب الشيوعي، فإنه بعد وصوله إلى الحكم قرر تأليف حكومة ليبرالية، وكانت أول رحلة له إلى الولايات المتحدة التي جال فيها تلبية لدعوة من رؤساء تحرير كبريات الصحف، وجهد لطمأنة الجيران حول نيات الثورة واستعدادها لإقامة علاقات ودية مع القوة العظمى. لكنه لم يلق أي تجاوب من الإدارة الأميركية التي اعتبرت انتصار الثورة على النظام الذي أقامته واحتضنته خطيئة لا تغتفر وتجاوزاً خطيراً للخطوط الحمر المرسومة حول حديقتها الخلفية. وما إن عاد إلى هافانا حتى أعلن تأميم مصافي النفط ومصانع السكّر وشركات الهاتف والكهرباء التي كانت كلها ملكاً للأميركيين، فبادرت واشنطن بعد ذلك بأشهر إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع كوبا في ٣٠ كانون الثاني (يناير) ١٩٦١، وبدأت جلجلة الثورة لتتحقق توقعات فيدل الذي حاولت الولايات المتحدة إسقاطه في عملية إنزال بحري ضخمة فشلت بسرعة عند خليج الخنازير في ١٦ نيسان (أبريل) ١٩٦١، ودبّرت له عشرات محاولات الاغتيال التي رفدت أسطورة الرجل الذي وضع كوبا على مفصل حسّاس في العلاقات الدولية إبان الحرب الباردة ودفع العالم إلى شفا صدام نووي نزع فتيله اتفاق اللحظة الأخيرة بين موسكو وواشنطن، بعد أن قبل نيكيتا خروتشيف بسحب الصواريخ من الجزيرة مقابل تعهّد الولايات المتحدة عدم اجتياحها وسحب صواريخها من تركيا.   ديكتاتوريات دموية بعد اغتيال جون كنيدي هبّت الرياح اليمينية عاصفة على واشنطن التي راحت تغدق الدعم العسكري والمالي على الحركات اليمينية والقوات المسلحة في أميركا اللاتينية، مما أدّى إلى قيام ديكتاتوريات دموية أضفت مزيداً من «الشرعية» على الثورة الكوبية التي راح نفوذها يتغلغل بعمق ويسطع بريقها في طول أميركا اللاتينية وعرضها. وبعد قرار الولايات المتحدة فرض حصار اقتصادي وتجاري خانق على الثورة الكوبية، ما زالت الأمم المتحدة إلى اليوم تدينه وتطالب برفعه كل عام، نجح فيدل في إقناع السوفيات بشراء محصول السكر الكوبي بأسعار باهظة تفوق ست مرات أسعار السوق العالمية، مقابل تنازلات سياسية ضئيلة مقارنة بما كانت تقدّمه دول المعسكر الاشتراكي الأخرى. وأفلح أيضاً في إقناعهم بتمويل دعمه حركات التحرر في أميركا اللاتينية ومغامراته العسكرية في أنغولا التي أوفد إليها ٣٥ ألف جندي لدعم الماركسيين في حربهم ضد القوى المدعومة من نظام الفصل العنصري في أفريقيا ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) بعد انسحاب البرتغال من مستعمراتها الأفريقية. لكن ذلك لم يمنع الثورة الكوبية من تحقيق منجزات اجتماعية فريدة كانت وما زالت تثير حسد الكثيرين من جيرانها، بمن فيهم الولايات المتحدة، خصوصاً في مجالات التعليم والرعاية الصحية والمساواة العرقية. ولكن مع انهيار الاتحاد السوفياتي جفّت منابع الدعم الاقتصادي للثورة التي بدت يتيمة، فيما راحت تتوالى التكهنات المنذرة بدنوّ انهيارها. وعلى رغم الضوائق الشديدة التي واجهها النظام في المرحلة التي أطلق عل يها اسم «الحقبة الخاصة»، تمكّن من الصمود على الجبهتين الداخلية والخارجية، لكن على حساب الحريات السياسية وحقوق الإنسان وثقة الأجيال الجديدة بقدرة الثورة على التجدد والاستمرار والحفاظ على منجزاتها. ثم جاء نظام هوغو تشافيز في فنزويلا، الذي كان يعتبر فيدل كاسترو الأب الروحي لحركته، ليعيد ضخّ الحياة في عروق الثورة الكوبية مغدقاً عليها المساعدات النفطية والمالية. وعندما بدأ النظام الفنزويلي يتصدّع رازحاً تحت أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة أوقفت تدفّق المساعدات على كوبا، كان فيدل ينسحب تدريجاً من المسرح السياسي ليطلّ عليه شقيقه راوول مكلّفاً كتابة الفصل التالي والأصعب في تاريخ الثورة. كان راوول يدرك أن ديمومة النظام شبه مستحيلة في الظروف الدولية والإقليمية الراهنة إذا استمرت المواجهة السياسية والاقتصادية مع الولايات المتحدة. وبما أنه كان يعرف أن التقارب بين واشنطن وهافانا مستحيل ما دام فيدل في الواجهة، تريّث إلى أن اطمأن على «تحييد» شقيقه، ليبدأ نسج خطوط التقارب الدقيقة والمعقّدة مع واشنطن برعاية الفاتيكان الذي كان قد شقّ طريقا في علاقاته مع كوبا منذ زيارة البابا يوحنا بولس الثاني عام ١٩٩٨ والتي أعقبتها زيارة أخرى للبابا بنيديكتوس السادس عشر سعياً وراء ربيع كوبي طال انتظاره.   تقارب الضرورة لم يعترض فيدل على تجاوب شقيقه مع مبادرة الفاتيكان للتقارب مع واشنطن، وقال إنه يتفهم ما تمليه الضرورة في هذه الظروف الصعبة. لكن الكل كان يعرف أنه لا يثق بالولايات المتحدة، كما عاد ليؤكد في رسالة نشرها مطلع العام الماضي بعد الإعلان عن إعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، جاء فيها: «لا أثق بسياسة الولايات المتحدة ولم أتبادل كلمة واحدة معهم. لكن هذا لا يعني رفضي تسوية النزاعات بالطرق السلمية». وفي مقالة له نشرتها صحيفة «غرانما» الرسمية عقب زيارة أوباما لهافانا، انتقد فيدل التنازلات التي قدّمها راوول للرأسمالية، وأعرب عن استيائه من دعوة شقيقه الكوبيين إلى «طي صفحة الماضي والتطلع إلى المستقبل»، «لأن تاريخ كوبا حافل بفصول العنف الذي ارتكبته أو حرّضت عليه الولايات المتحدة»، مضيفاً: «ليس عند الأميركيين ما يمكن أن نتعلّمه منهم، ولسنا بحاجة إلى صَدَقتهم». لم يجتمع أوباما بفيدل خلال زيارته كوبا، دليلاً على أن قائد الثورة كان قد دخل مرحلة الاحتضار السياسي. لكن ثمة من ذكّر يومها بما جاء في إحدى خطبه عندما قال: «ستأتي الولايات المتحدة إلينا تطلب إعادة العلاقات، عندما يجلس رئيس أسود في البيت الأبيض، ويتربّع كاهن أسود – يسوعي – على سدّة بطرس» (البابا فرنسيس). تنفسّ الحريصون على الثورة الصعداء عندما مدّ أوباما يده إلى النظام الكوبي في عزّ ضائقته، وعقدوا الآمال على انفتاح أبواب تغيير تدرّجي بقي عصيّاً طوال خمسة عقود وراح يهدد بالقضاء على المنجزات الاجتماعية المذهلة التي تحققت على رغم العزلة الاقتصادية والتجارية الخانقة. لكن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ينذر بالعودة إلى المربّع الأوّل والمواجهة المنهكة التي تميّزت بها العلاقات بين البلدين منذ اليوم الذي أعلن فيه فيدل اشتراكية الثورة وقرر زجّها في أتون الحرب الباردة. لن يكون من السهل التكهّن بمسرى التغيير بعد فيدل، أو حتى باحتمالات حدوثه، قبل أن تكشف الإدارة الأميركية الجديدة أوراقها. هل تجنح كوبا نحو صيغة رأسمالية الحزب الواحد الصينية؟ هل تميل إلى التعددية السياسية في ظل هيمنة الحزب الحاكم أم تجازف بالمراهنة على الخيار الديموقراطي الواسع الذي تطالب به الغالبية الساحقة منذ سنوات؟ الأمر الوحيد المؤكد اليوم هو أن هافانا لن تقدم على أي خطوة قبل معرفة وجهة الرياح التي ستهبّ من واشنطن مطالع السنة المقبلة.

مشاركة :