كنت قد تحدثت في المقالة السابقة عن صور من صور التحيز في الأدب، وكانت تدور حول جوانب من الواقع الاجتماعي. إلا أن هناك نوعاً آخر من التحيز لا يقوم على المواقف الاجتماعية، وإنما يقوم على المواقف الأدبية، ويؤثر في أحكام القيمة المصدرة على النتاج الأدبي، وكنت قد ذكرت في المقال السابق الحديث عن الموقف العام من شعر النساء، فقلت إن العرب لم يروا للنساء تفوقاً إلا في الرثاء، وذكرت أن سبب هذا الموقف لا يعود إلى جودة الشعر، وإنما إلى موضوعه حيث يكون خالصاً لرثاء الرجل، والبكاء عليه، وتعداد مآثره، ومناقبه، ثم إنها تعطي الصورة المحببة للرجل التي تبدو فيها، وهي تبكي على فراقه، وانحطمت حياتها بدونه، فليس لها قدرة على العيش بدونه، وهذا يتوافق مع النظام البطريركي السائد. هذا الموقف من شعر النساء لا يعتمد على قيم موضوعية، أو معايير فنية، بقدر ما يعتمد على جنس القائل، وهذا يبدو في المقولة المشهورة المنسوبة للنابغة حين قال للخنساء، وقد أنشدته الشعر في عكاظ، «اذهبي، فأنت أشعر بنات جنسك»، وفي رواية، «فأنت أشعر ذات ثديين»، والتي تعني أن الخنساء، وشعرها إنما تقارن ببنات جنسها، وأما الشعراء الذكور فلا يمكن أن تقارن بهم. وهو الموقف الذي تؤكده المقولة الأخرى المنسوبة إلى بشار بن برد حين يقول: «لم تقل امرأة شعراً قط إلا تبين الضعف فيه، فقيل له أو كذلك الخنساء؟ فقال: تلك كان لها أربع حصى». وهذا الموقف لا يتصل بالشعر نفسه بقدر ما يتصل بالموقف من الأنوثة نفسها التي تحيل إلى الضعف والنقص في المخيال العربي. هذا الضعف وصل إلى وصف كل أنثى بالضعف، ووصف كل موصوف بالضعف بالأنثى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا}، وقال الشاعر: إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر فالشيطان الذكر مقدم على الشيطان الأنثى، وهو مدعاة للفخر. وكما أصبحت الأنوثة قيمة يعتمد عليها في الحكم على الشعر، والنظر إليه، فإن لون البشرة أيضاً كذلك، فإذا كان لون بشرة نصيب في المقالة السابقة سبباً قادحاً في أهلية حصوله على الجائزة، فإنها في حكاية أخرى كانت قيمة يعتمد عليها في تقويم الأدب، وتحديد مكانة الشاعر الفنية، فقد روي أن نصيباً كان في مجلس سليمان بن عبد الملك بحضرة الفرزدق، فأنشد نصيب شعراً في مدح الخليفة، وحين فرغ من ذلك، سأل الخليفة الفرزدق عن رأيه فيما سمع، فقال: «هو أشعر أهل جلدته»، يقصد السود، فقال: سليمان بن عبد الملك: «وأهل جلدتك أيضاً»، يريد أن اللون لم يغير قيمة شعره، فغضب الفرزدق، فقام وهو ينشد: وخير الشعر أكرمه رجالا وشر الشعر ما قال العبيد فشر الشعر هنا منسوب إلى قائليه، وليس إلى قيم فنية أو موضوعية، وهذا هو التحيز. بل إن بعض الباحثين يرى أن مفهوم الفحولة في الشعر ذو ارتدادات اجتماعية، ويعتمد على مقولة الفرزدق حين سأله ذو الرمة: «مالي لا أعد في الفحول»، قال: «قصر بك عن ذاك بكاؤك في الدمن، ونعتك أبوال العظاء والبقر، وإيثارك وصف ناقتك، وديمومتك». والمقصود أنه يطيل القول في موضوع غير ذي بال، وهو الوقوف على الأطلال، وكان الشعراء يكتفون منه ببعض الأبيات، ثم ينصرفون إلى موضوع القصيدة. وهي المآخذ التي قيلت بعد ذلك في نقد ذي الرمة، أنه يجيد وصف الظعائن، والصحراء، فإذا بلغ المدح أو الهجاء أكدى أي عجز. وهنا بيت القصيد، فالفحولة ليست بناء على جمال الشعر بإطلاق، ولكنها بناء على المقدرة في موضوعات معينة، تتحدد في المقولة الأخيرة، بـ»المدح، والهجاء»، فالمدح لأن الشعر يقال في فئة اجتماعية معينة يمكن أن تمدح، وقد جاء في بعض التراجم القديمة عندما يصفون أحد السادة، يقولون: إنه كان «ممدحاً»، على سبيل الثناء على تلك الشخصية، وبيان مآثرها، فالمدح لا يكون إلا «للسيد ذي الأيادي» كما يعبر أبو تمام، فالمدح والسيادة متلازمتان، وهذا يكسب المدح قيمته. وأما الهجاء فلأنه إذا غلب شاعراً معيناً دل على قوة شعره، وقدرته على إفحام الخصوم والظهور عليهم، وبهذا سمي علقمة بن عبدة بالفحل، حين حكمت أم جندب له بالتقدم بالشعر، ولا يهم بعد ذلك إذا كانت قصيدة أمرئ القيس كانت أجود. ويدخل في المديح، ويتصل به الحديث عن القبيلة، فقد كانت العرب تقدم الشاعر الذي يعني بمآثرها، فيمدحها، ويعدد مناقبها، ويرثي موتها، وكذلك كان الشأن في لبيد، فيذكر أبو عمرو بن العلاء أن خداشاً بن زهير أشعر في قريحة الشعر من لبيد، وأبى الناس إلا تقدمة لبيد، ويبدو أن سبب ذلك ما ذكره ابن سلام عنه أنه كان خير شاعر لقومه؛ يمدحهم، ويرثيهم، ويعد أيامهم، ووقائعهم، وفرسانهم. وهذا يعني أن المكانة الأدبية التي نالها لبيد، وبها تقدم على خداش استجابة للمكانة الاجتماعية، وليست قائمة على القيمة الفنية، كما في رأي أبي عمرو وفي رأي الأصمعي الذي عد خداشاً في الفحول، وقال عن لبيد: «كان رجلاً صالحاً»، وبصياغة أخرى لأن لبيداً احتلت مكانة عالية في قومه، فإنهم تحيزوا إليه وقدموه على خداش مع أنه لا يتقدم في الشعر عليه.
مشاركة :