كثر من الذين يكتبون عن السينما، سواء كانوا نقاداً حقيقيين أو مجرد صحافيين عابرين على الفن السابع، يسهى عن بالهم حين يكتبون اليوم عن السينما الهوليوودية، أن هذه كفّت منذ عقود طويلة عن التعامل مع السود أو الهنود الحمر، على الأقل، بطريقة عنصرية. فمنذ نهاية الخمسينات، توقّف ذلك الهراء... لكنه بقي حاضراً على الأقلام. ولقد خبرنا هذا قبل سنوات قليلة لمناسبة عرض فيلم «العائد» للمخرج أليخاندرو إينياريتو، حيث «دُهش» كثر من «كتابنا»، إذ أفادهم الفيلم بأن صورة الهندي الأحمر «بدأت» تصبح أكثر عدلاً في هوليوود. من الواضح أن هذا الكلام أتى متأخراً ستة عقود. فمن يشاهد آخر أفلام جون فورد وويليام ويلمان وغيرهما، والتي تعود الى الخمسينات وربما إلى قبلها، يكتشف تلك الصورة المتعاطفة مع الهنود الحمر بكل بساطة. ومع هذا، ثمة فيلم يعود الى عام 1954 يمكن اعتباره علامة أساسية في هذا السياق. والفيلم الذي نعنيه هو «برونكو آباتشي» لروبرت آلدريتش، الهوليوودي بامتياز. فهذا الفيلم لا يتعاطف فقط مع الهنود الحمر بل يحمل قضيتهم بيرقاً له ويجعل من الظلم الذي تعرضوا له على مدى تاريخهم، موضوعاً متميّزاً كأننا أمام فيلم نضاليّ حقيقي كان يجدر بمارلون براندو أن يقوم فيه بدور الهندي. لكن الذي قام بالدور كان عملاقاً آخر من عمالقة هوليوود، بيرت لانكستر الذي أبدع هنا في دور الهندي في شكل لم يكن متوقعاً، مستبقاً أدواراً مماثلة سيلعبها داستن هوفمان أو روبرت ردفورد... > تتمحور حبكة الفيلم من حول الهندي ماسّاي الذي ذات عراك قاس وغير متكافئ بين الجنود البيض والمقاتلين الهنود بقيادة الزعيم التاريخي جيرونيمو، يرفض الاستسلام المذل الذي كان جيرونيمو قد اقترحه أمام تفوق الغزاة البيض وقسوتهم التي أوصلتهم الى حدود إبادة مجموعات كبيرة من سكان البلد الأصليين. يصرّ ماسّاي على مواصلة النضال لأنه يعرف حقاً أنه صاحب قضية محقة وأن الاستسلام أمام جحافل الغزاة لن يبدل من واقع الأمور أيما تبديل. وعلى هذا النحو، لا يكون ثمة مفر من أن يخوض معركة خاسرة بوصفه آخر محاربي الآباتشي. لكن كثرة الأعداء وتفاقم السجالات في صفوف رجاله واستنكاف مجموعات كبيرة من أبناء جلدته عن مواصلة خوض القتال، تؤدي بماسّاي الى أن يؤسر ويُرسل في قافلة كي يودع في مكان مخفور بولاية فلوريدا. لكنه في طريقه الى السجن، يتمكن من الهرب ويتوجه الى دياره حيث تنتظره امرأته الحامل التي تتوسل إليه أن يتوقف عن المجابهة لأنها ستكون خاسرة لا محالة. لكنه لا يريد الإصغاء إليها، بل يقوم بتجميع من تبقى معه من رجال عازمين مثله على حفظ كرامتهم والتحكّم بمصيرهم الخاص كي يخوض المعركة الأخيرة، في وقت يروح البيض يدبرون الحيل والمناورات للقضاء عليه... > كان «برانكو آباتشي» واحداً من تلك الأفلام المبكرة التي قلبت الآية لتجعل البيض جلادين والحمر ضحايا شرفاء. ومن هنا، أدهش الفيلم العالم ممهداً لأفلام هوليوودية عديدة ستسير على منواله، مسبغاً على هوليوود سمعة تقدمية منصفة ما كان أحد يتوقعها. ومسبغاً بالتالي على المخرج روبرت آلدريتش سمعته كمخرج تقدميّ إنما حين يحلو له. > عندما رحل آلدريتش عام 1983، كان قد مضى عليه قرابة نصف القرن وهو يعمل في حقل السينما الهوليوودية، بمعنى أنه عاصر عاصمة السينما الأميركية والعالمية منذ الزمن الذي اكتسبت فيه مشروعيتها الفنية والكونية في آن، بعد أن كانت مجرد مكان تتجلى فيه الحرفة السينمائية بأكثر مما يتجلى فيه الفن السينمائي بالمعنى الإبداعي للكلمة، حتى الزمن الذي لفظت فيه هوليوود واستديواتها أنفاسها الأخيرة وتحولت الى شيء آخر تماماً لا يمت الى ماضيها بأية صلة من الصلات. وفي هذا المعنى، يمكن اعتبار آلدريتش، في حد ذاته، صورة لهوليوود بنجاحاتها وإخفاقاتها، بطلعاتها ونزلاتها وبشتى جوانبها، إذ إننا في أفلامه نعثر على الأجناس السينمائية كافة من ميلودراما الى أفلام عنف الى الأفلام الحربية، ألى أفلام رعاة البقر، كما نعثر على شيء من التوجهات الاجتماعية حيث نلاحظ أن الذي حقق الفيلم العنيف والمحافظ «الدزينة القذرة» هو نفسه الذي حقق «السكين الكبير» المقتبس عن مسرحية شهيرة للكاتب الأميركي الراديكالي كليفورد أوديتس. هل نعني بهذا أن آلدريتش كان حافلاً بالتناقض؟ نعني بالأحرى أنه حمل في ذاته كل ما حملته هوليوود من تناقضات خلال مراحلها الذهبية، فالسينما الأميركية التي صُنعت في عاصمة الاستديوات الكبرى كانت على الدوام سينما الأنواع والأجناس المختلفة، كما كانت سينما التقدم والتخلف. كانت المكان الذي يبجل جون واين وسيسيل بي دي ميللي، كما كانت المكان الذي أطلق شابلن ولوزاي والتجأ إليه التقدميون الأوروبيون حين فروا من أوطانهم خوفاً من اضطهاد النازيين والرجعيين الأوروبيين لهم. > والحال أن انتماء روبرت آلدريتش الى هذا كله لم يأت على سبيل المصادفة، فهذا المخرج الذي بدأ حياته فتى سليل أسرة من المصرفيين الأثرياء، انخرط في الدراسة الجامعية فدرس التمثيل ترفاً قبل أن يجد في فن السينما اختياره المستقبلي، فبدأ العمل في ستديوات إر. كي. أو منذ 1941، وترقى في عمله حتى أضحى مساعداً لعدد من المخرجين، بينهم جان رينوار (في مرحلته الأميركية) وجوزف لوزاي وويليام ويلمان، وعن هؤلاء الأساتذة الثلاثة أخذ آلدريتش منحاه المتمرد الذي قاده الى التجابه مع جماعة المكارثيين، ولم يكن قد مارس الإخراج بعد، وهو حين نال فرصته الأولى كمخرج عام 1953، حرص على أن تحمل أفلامه الأولى بصمات نزعته التمردية، حتى وإن كانت أفلامه التالية في معظمها تبدت أقل ثورية وأكثر رغبة في المصالحة، بخاصة أن فيلمه الكبير الأول «قبلني قبلة الموت» جاء مقتبساً عن رواية بوليسية عنيفة من توقيع ميكي سبيلين لم تخل من نزعة اجتماعية حاول المخرج أن يوازنها بالتركيز على فردية البطل وانخراطه في نمط الحلم الأميركي. > منذ ذلك الحين، لم يتوقف آلدريتش عن تحقيق الأفلام الكبيرة بالتتالي مع العديد من الأفلام الأقل أهمية. وفي هذا الإطار، توقف النقاد طويلاً أمام أفلام مثل «برونكو آباتشي» الذي حققه باكراً في أواسط الخمسينات ليقدم كما رأينا، صورة متعاطفة مع الهنود الحمر وقفت على الضدّ من تيار الصور السينمائية التي كانت سائدة عنهم في ذلك الحين. ويقينا أن هذا الفيلم جاء يومها ليعزز من السمعة التقدمية التي كان آلدريتش قد اكتسبها. وليجعلنا نرى، باختصار، أن فترة الخمسينات التي كانت هوليوود قد خرجت فيها لتوّها من الحفرة الماكارثية كانت فترة طبعها آلدريتش بأفلام حاولت أن تعيد النظر في نظرة هوليوود الى التاريخ والمجتمع الأميركيين: «فيراكروز» و «السكين الكبير» الذي سبقت الإشارة إليه. وهذان الفيلمان في شكل خاص، أصابا من النجاح التجاري ما جعل آلدريتش ينخرط أكثر وأكثر في الحياة الهوليوودية، بحيث أتت سنوات الستينات لتشهره مخرجاً أقل ثورية إنما أفضل تقنية، إذ صارت ابتكاراته الأسلوبية مثلاً يحتذى في هوليوود التي كانت قد بدأت تخرج من تقليديتها. > في الستينات، راحت أفلام آلدريتش تتميز بكثافة مواضيعها وتركيز أساليبها، كما راحت تتميز بتنوعية ملحوظة، إذ في تلك الآونة حقق «الدزينة القذرة» أشهر أفلامه وأعنفها على الإطلاق، و»مهما حدث لبيبي جين» الذي أعاد الاعتبار الى أفلام الرعب والى الأسود والأبيض، وقدم بيتي دايفز وقد أضحت عجوزاً، في شكل لم يقدمها به أحد من قبل. ولقد قاده نجاح هذا الفيلم الى إعادة الكرّة في فيلم رعب نفساني ثان هو «هش... هش... يا شارلوت اللذيذة» (1964)، وفي هذا الفيلم كشف آلدريتش مجدداً عن قوة تعامله مع الممثلين من خلال تحريك فنانتين كبيرتين تجابهتا في الفيلم: أوليفيا دي هافيلاند وبيتي دايفيز. ولقد أتت إدارته هاتين الفنانتين لتذكّر بأنه، إضافة الى مواهبه الأخرى، كان موجّهاً للممثلين من طراز رفيع، هو الذي قدم في أفلامه العديدة بعض كبار الكبار من غاري كوبر الى لي مارفن وجاك بالانس وجين وايلدر... الخ. غير أنه سرعان ما أخلد الى السكينة منذ السبعينات وأضحى على هامش هوليوود، التي بدورها كانت قد بدأت تضحي على هامش السينما الأميركية نفسها. وحين رحل كان رحيله إشارة الى رحيلها.
مشاركة :