أحمد دوابشة.. وجع القلب في خريفٍ حزين

  • 12/12/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ألجمني الصمت أكثر من مرة وتثاقلت الغصاتُ في قلبي وأنا أكتب هذا المقال، وكلما حاولت الاستمرار كانت مشاعري تتلظى ألماً وتتلعثم اللغة على شفتيّ وتتيه الكلمات ويسقط قلمي وجعاً على ذلك الطفل الصغير الذي رحلت عائلته بأكملها دون أن يهديه أحدهم قبلة الوداع الأخيرة! أحمد دوابشة.. رغم عودته للحياة وتماثله للشفاء واندمال جروحه فإن جراحه النفسية باقية لن تندمل على مر السنين! بعد أن أصبح ابن شهيد وابن شهيدة وأخاً لشهيد. فقد عاش أحمد رحلة علاج طويلة وهو يرقد على سرير الشفاء، وبقي في حالة غيبوبة كاملة لأشهر نتيجة الحروق الخطيرة التي أصيب بها إثر المحرقة التي ارتكبها مستوطنون حاقدون في قرية دوما بقضاء نابلس صيف العام الماضي. وخلال فترة مكوثه بالمشفى، رحلت عائلته بأكملها وأخذت معها كل الذكريات الجميلة التي عاشوها معه وأصبحت تحت التراب، وحتى ذكرياته القليلة مع أخيه الرضيع عليّ ذي العام ونصف العام. مشيئة الله -سبحانه وتعالى- أن يكون أحمد الناجيَ الوحيد من محرقة عائلة دوابشة التي تمثلت بإحراق المنزل بالكامل على ساكنيه في منتصف الليل وهم نائمون، وبقي أحمد يرقد في المشفى لتلقي العلاج إثر الحروق الخطيرة التي أصيب بها شهوراً طويلة، وحتى بعد خروجه بقيت الضمادات واللفافات البيضاء تغطي رأسه، فقد نهش وجهَه وجسدَه ورأسَه الصغيرَ احمرارٌ وتورماتٌ، كما أنه ما زال يلبس كفة جلد في يده اليمنى التي أصيبت بحروق شديدة وما زال أصلع الشعر من الناحية اليمنى لرأسه ومن الخلف، كما أجريت له عملية زراعة جلد مؤخراً. وخلال فترة مكوث أحمد بالمشفى، ظل دائم العتاب على أُسرته وبقي ينادي على والديه وهو تحت تأثير المخدر وكان يردد دوماً: "وين ماما؟! أنا زعلان منها؛ ليش ما اجت تشوفني وتطل عليا وتشوف الواوا اللي براسي؟! أبوي تأخر! روح شوفو يا سيدو روح جيبوا، ليش ماما ما جابتلي أواعي العيد! وينهم كلهم؟!) كم هي مؤلمة تلك العبارات! أحمد الذي يبلغ من العمر 6 أعوام، طفل أصبحت حياته تحت الأضواء وكل يوم يزداد شهرة ونجومية، وباتت قصته قريبة من سيناريو مسلسل، حيث أصبح اسمه يتردد كل يوم في الصحف والمجلات المحلية والعربية والدولية، إضافة إلى حضوره الكثير من المؤتمرات الصحفية، فقد طار أحمد إلى معظم الدول العربية والأجنبية، حيث جعله الحزن واستشهاد عائلته وهو في هذه السن بطلاً كبيراً في الصحافة والإعلام وأمام أعين الكاميرات؛ سافر أحمد إلى الأردن وكُرّم هناك وأجري له استقبال كبير، وسافر إلى مكة المكرمة وأدى العمرة ودعا لأهل حلب أمام الكعبة المشرفة، كما زار تركيا. ولعل الحدث الأبرز والأهم، هو سفره إلى إسبانيا ولقاؤه فريق نادي ريال مدريد الإسباني والتعرف إلى اللاعبين وجهاً لوجه، وخاصة النجم كريستيانو رونالدو والتقاط صور تذكارية مع الفريق كافة، كما كتب جميع اللاعبين على قميص أحمد، حيث أهدى إليه الفريق الزي الرسمي للنادي. هذا ونشرت صحيفة الماركا الإسبانية تقريراً عن تلبية الطفل أحمد دعوة نادي ريال مدريد وصوره في النادي الملكي الإسباني وهو يركل الكرة في ملعب سانتياغو برنابيو ومدينة ريال مدريد الرياضية حيث حضر تدريبات الفريق الأول. وبهذه الزيارة التاريخية، كما يعدها البعض، يكون أحمد في نظر الإعلام قد حقق كل أحلامه بلقائه نجماً ساطعاً كرونالدو. أذهلتني عينا أحمد اللتان تحكيان عن حيرته خلال مقابلة صحفية أجرتها معه مراسلة قناة الجزيرة عندما كان في المشفى، متسائلاً: "هما ليش حرقونا! وكيف أنا انحرفت وصار وجهي مش حلو! طب وين ماما ليش ما اجت تشوفني أنا كتير اشتقتلها وينها؟!". لو يعلم أحمد أن أمه كانت ترقد على سرير الغرفة التي بجانبه قبل أن ترحل روحها إلى بارئها، فقد دخلت في حالة موت سريري؛ لأن درجة حروقها وصلت 98 في المائة، كم حَلُم أحمد أن يرى أمه قبل أن ترحل وأن يحضنها وتضمه على صدرها وتُقبله على جبينه! أحمد الذي استيقظ فجأة من نومه لحظة وفاة والدته وصرخ من قاع قلبه صرخة مؤلمة وبكى طويلاً وبحرقة، وجميعنا شاهد الفيديو عندما بكى بكاء يفطر القلوب حتى جفّت دموعه لحظة مفارقة والدته الحياة في الغرفة التي بجانبه، كأنه شعر بأن والدته توفيت لحظتها! وتركته وحيداً، كم تمنيتُ أنا شخصياً أن تبقى أمه معه مدى الحياة تداوي جروحه وتؤنس وحدته بعد استشهاد أخيه وأبيه، ولكن كل شيء بمشيئة الله تعالى وإرادته، والحمد لله على كل حال. ومن شدة إلحاح أحمد وسؤاله عن أمه وأبيه وأخيه، قررت الاختصاصية الاجتماعية التي تتابع حالته النفسية أن تخبره باستشهاد عائلته، حيث بدأت معه بالتدريج وعلى مراحل كقصة فيلم لا بد أن يكون لها نهاية، سواء أكانت سعيدة أم حزينة، لكنها كانت قاسية كحد السيف على قلب أحمد، وسيدرك ذلك وسيشعر بالفقدان أكثر عندما يكبر. تردد كثيرا قبل أن يذهب إلى مدرسته في أول يوم من بدء العام الدراسي، كان الخوف واضحاً على وجهه، لكن جده وعمه أصرا على أن يذهب إلى مدرسته، التي سميت على اسم أخيه الشهيد (علي دوابشة)، كما رافقاه طيلة الدوام ووافقا على تلبية طلبه بأن يقود أحمد سيارته الإلكترونية ويذهب بها إلى المدرسة والتي تعمل بالريموت كنترول، فالأهم هو أن يذهب ويكسر حاجز الخوف والحرج من الحروق الموجودة على وجهه وجسده. هذا، وحظي أحمد باهتمام ملحوظ من جميع المدرسين والطلاب الذين تمنى كل منهم أن يجلس بجانبه؛ كما أن صفّه جُهّز خصيصاً حتى يلائم وضعه الصحي من تكييف وستائر وبالونات وألعاب ورسومات جميلة على الحائط. "أربعة، عدد أفراد أسرتي أربعة"، هكذا أصرّ أحمد على أن يجيب عن سؤال موجود على صفحة كتابه الخاص به في مادة اللغة العربية للصف الأول الابتدائي، يظهر بالصورة كف اليد والسؤال كالتالي: (لوّن أصابع اليد في الصورة حسب عدد أفراد أسرتك)؟ فقد كتب أحمد أربعة ولوّن أربعة؛ فهو ما زال متمسكاً بأسرته وبالعيش معهم وأن جميع أفراد عائلته ما زالوا موجودين على قيد الحياة وعددهم أربعة. هكذا كان رد فعله عندما أجاب عن السؤال! ربما أراد أن يجيب هكذا؛ حتى يشعر بأن عائلته حوله أو من الممكن أن تعود يوماً ما في نظره. عندما يكبر أحمد سيعي أن عائلته رحلت بفعل حاقد صهيوني وسيظل شوكة في حلق الاحتلال الإسرائيلي؛ لكونه الناجي الوحيد من هذه المحرقة التي أصبحت قضية رأي عام دولي وعالمي واتضح للجميع مدى التواطؤ الإسرائيلي مع المستوطنين وتهرّبهم من محاسبتهم على فعلتهم الجبانة في منتصف الليل، وسيؤرخ التاريخ في صفحاته أن أحمد سيبقى يتجرع ألماً ووجعاً لم يكن يعرفهما طيلة حياته؛ لأن ألم الفراق والوحدة لم يشعر به إلا من ذاقه! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :