قصائد المديح لها دلالات كبيرة لواقع الأدب المنسلخ عن فضاءاته الإبداعية المسكونة بروح التجارب الإنسانية الخالصة ذات الفلسفة المحضة، إذ تتمحور باستعراض مكشوف لا مواربة فيه حول شخص الممدوح، وعادة ما يكون متشبعاً بها، مما يُلقى على مسامعه في كثير من المناسبات، فالثقافة العربية بما فيها من وعي لا تزال تتماها مع هذا الارتباط الحميم لأغراض الشعر الكلاسيكية القديمة، ولم تستطع الفكاك منها إلا بقدر ضئيل إبان تماسه الخجول والمتواضع بالمدارس الحداثوية في ثمانينات القرن الماضي، ليس على مستوى الشعر فقط، بل أيضاً على مستوى الفكر، متحرراً من عوالقه التي أثقلت «ديناميكيته» وتوهجه ومباغتاته المستفزة للأسئلة، ناقلة إياها من عالم متخيل طبيعي مستهلك إلى رحاب فضاءات أخرى تتماس مع الفلسفة في شكل مختلف، لتجد نفسها في صراع أشكال الأدب القديم ومدارسه الكلاسيكية، حتى ارتطم أخيراً بواقع مجتمعات اختطفتها الاتجاهات الإقصائية والتكفيرية لتعيدها إلى أسوأ مما كانت عليه، إذ أولجت معها الشعر النبطي أو الشعبي، ليصبح معبّراً ومعْبَرا لقيم هذه الاتجاهات، التي ألبست في فترة لاحقة بقيم القبيلة، واقتربت من إثارة الحميات العصبية باستخدام الصوت أداة للنفخ في أهازيجها وشيلاتها. القصائد المدائحية أيضاً مذ عرفنا أربابها لم تبتعد كثيراً من هذه التوجهات، وأفضل ما فيها أنها تتغنى بالوطن في سلمه وحربه، وتقف إلى جانب قادته، إلا أنها لم تستطع الخلاص من مبالغاتها الفجة، التي تشبه قرع الطبول، مع اختلاف شعرائها في مهارة انتقاء الإيقاعات المناسبة، تلك التي لا يجيدها سوى الشعراء القادرين على اقتناص لحظة «التشظي» الصوتي و«التجييش» الروحي والنفسي أمام هيبة ملك أو سلطان يستمع إليها، كما يستمع إلى أغنية أو أنشودة وطنية، وقد لا تعني له أكثر من لحظة إلقائها الممسرح، لأن مآثر الشعراء المدّاحين المعروفين، التي خلدتها دواوينهم مما يستشهد بها في كثير من المناسبات، أعظم وأجزل مما ترتفع به عقيرة شعراء بلاط اليوم، الذين لم يعد همهم الأوحد مجرد التكسب بل الشهرة أيضاً، خصوصاً في زمن تفشت فيه مواقع التواصل الاجتماعي. وأصبح للقصيدة المدائحية قواعد لازمة لضمان نجاحها، أهمها الصوت وتنغيماته، فعلى الشاعر تجهيز حنجرته لتتسع لأكثر من نبرة، وأن يشد حباله الصوتية، وأن يقف باعتدال أشم مرتفع الهامة بعينين مسهمتين نحو الشخص أو الأشخاص المعنيين، ثم ينطلق باستهلال يشد الانتباه ويجذب الاهتمام، وهي الرمية الأولى في صيرورة القصيدة الاحتفائية، فعندما يتقدم خلف بن هذال شاداً من إزره، رافعاً جبينه بعينين واثقتين يضرب الأرض بتحية مسموعة، ويصدح بصوت علِيّ أبياتاً مشمولة بالتحية والترحيب، فهو بهذا يجزل على المعني بما يليق به من أهمية، وهو ما لم يفعله الشاعر الشاب عبدالله الحيدر، الذي تقدم بين يدي خادم الحرمين الملك سلمان على خوف واستحياء - ويعذر له أنها تجربة أولى في موقف مهيب –، وقف منتظراً إشارة الإلقاء تلك التي اصطادتها عدسة الكاميرا الفاضحة، بينما هو يحاول لملمة «بشته» ليقحم يده في كمه الأيسر أثناء تأديته التحية، ليبدو استهلاله ضعيفاً وهو يتلو عنوان القصيدة «مخطوطة القرى والظلال». جاء البيت الأول على غير المعتاد في قصائد المدائح الاحتفالية، إذ إنه لا يحمل أدنى مضمون يكسر رتابة الحفلة ويروي عطش المنتظرين بشغف لهذا الشاب، الذي حصد عدداً من الجوائز في مسابقات الشعر الكبيرة، إذا به يستهل قصيدته بصوت رخي ممطوط تلاحقت النظرات تلو النظرات بشيء من الاستغراب الذي يشي بالاستهجان. استهجان القصيدة التي لا تبدأ بصوت مزمجر تشنف له الأذان وتبعث في الوجوه الخاملة علامات التوق والدهشة، وتُحدث هزة «رخترية» على مقاس القلوب العاشقة لتطريب القصائد على أنغام اسم راعي الحفلة بالقوة نفسها التي يبتدر بها خلف بن هذال قصائده، التي عادة ما يضمنها مجموعة من القيم الإسلامية والعادات العربية الأصيلة، التي يعكس من خلالها عمق حب الإنسان لدينه ووطنه ومليكه، وهذا ما لم يوفق إليه الشاعر الشاب، الذي أطنب في ثنائية المديح ما بين الوطن وراعي الوطن حتى نهاية القصيدة، في توصيف شعري ذي معان بسيطة، بينما خلف بن هذال لا يفتأ يكرر تحيته للملك ملحقاً إياها بعدد من الخصال الحميدة منها: صيانة المقدسات، والثبات في الرأي والعزم، مع الدعاء للوطن بالخير الكثير، إضافة لما يجود به على المواطن من خير ونعم، ليقف المواطن إلى جانب الملك في مؤازرته له في سلمه وحربه. في المقابل وضع الشاعر الشاب المواطن في درجة أقل بكثير مما يستحقها، وهو ما استفز الناس وأحدث كل هذا «الهيجان» الشعبي ضد القصيدة وقائلها، إذ جردت المواطن من إنسانيته وجعلته مستلباً بلا إرادة أو قيمة، وهذا ما لا يرضاه خادم الحرمين الشريفين لشعبه الأبي. هذا الشعب الذي أثمرت فيه 80 سنة من التعليم والتثقيف حتى أصبح مدركاً تماماً لما له وما عليه، فهو عندما يقف مع قيادته فمن قناعة وإدراك أن قوام هذا البلد وصلاحه في «قيومية» ساسته وحكامه، لكنهم شعراً بدو مكتفين عن متطلبات الحياة الحقيقية ومن أهمها السكن، الذي لا تزال وزارة الإسكان تتخبط في ملفاته الضائعة. لذلك، استحق البيت الأخير بجدارة «وسم» السخرية بلا منازع. كل ما تقدم لا يقدح بشاعرية الشاب الحيدر، فله في هذه القصيدة أبيات جميلة، فيما لو انتزعت من سياقها المدائحي، وترك المديح إلى من تنصاع لهم الكلمات والمعاني ويجزلون في تلوينها بالأوزان والقوافي المرنة التي تمنحهم طاقة الإلقاء حد التصديق، ولعل تجربة الشاعر جاسم الصحيح في قصيدته، التي ألقاه أمام الملك عبدالله - رحمه الله - في الجنادرية، تتبع بذكاء الخطوط العريضة للشعر المدائحي، بلغة نقية ورصينة، قلّما يجود بمثلها شعر المدّاحين. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@
مشاركة :