«الكتابة عند درجة الصفر» لرولان بارت: بعيداً من الغموض المفترض

  • 12/14/2016
  • 00:00
  • 30
  • 0
  • 0
news-picture

في عام 1999، وفي تصنيفها المئة كتاب التي كانت الأكثر تأثيراً في القرن العشرين، أوردت صحيفة «لوموند» الفرنسية اسم كتاب رولان بارت «الكتابة عند درجة الصفر» بوصفه واحداً من تلك الكتب، ولم تضعه حتى في المراتب الأخيرة. واللافت، أن الكتاب الذي شغل المرتبة الأولى في تلك اللائحة كان رواية «الغريب» لألبير كامو، وهو الكتاب نفسه الذي ينطلق منه بارت في تحليله الأدبي في المؤلف الذي نتحدث عنه هنا. كان «الكتابة عند درجة الصفر» الكتاب الأول الذي يصدره في عام 1953، ذلك الناقد الشاب الذي كانه بارت في ذلك الحين، والذي لم يكن معروفاً إلا في الأوساط الفكرية الضيقة بمقالات كان اعتاد نشرها خلال السنوات العشر السابقة، من دون أن تجعل منه تلك الظاهرة التي سيفجرها ذلك الكتاب الأول. ونعرف أن هذا الكتاب سيظل أشهر كتاب لبارت، مع أن كتباً عديدة له صدرت من بعده ستكون أكثر أهمية منه. > مهما يكن من أمر، من الواضح أن أهمية «الكتابة عند درجة الصفر» تكمن في أنه كان واحداً من الدراسات النقدية الأولى التي تحاول أن تقف، ومن موقع يساري تحديداً، موقف الضد من مسألة طغيان الأيديولوجيا على الأدب، إبداعاً ونقداً على السواء. فهنا وعلى العكس مما كان سائداً في أوساط الفكر اليساري في تلك الأزمان، لم تعد الأولوية للمضمون أو الرسالة أو الموقف، في العمل الإبداعي. ولقد أتى ذلك بالتحديد انطلاقاً مما يقوله ألبير كامو في «الغريب»: «إن الكتابة الجديدة المحايدة تموضع نفسها وسط كل ذلك الصراخ والعويل من دون أن تشارك فيه، إنها تتكون بالتحديد من غيابها عنه». صحيح أن رولان بارت، وكما يقول دارسون لكتابه، لا يبتعد كثيرا في مواقفه مما كان سائداً جمالياً وحتى أيديولوجيا في زمنه، لكنه عرف مع هذا كيف يعلن عن طموح يبدو واضحاً أنه أكثر اتساعاً بكثير. بالتحديد، كان مؤلّفه «يستهدف إعادة كتابة تاريخ الكتابة بوصفه تاريخاً للأشكال»، وهو لكي يتمكن من ذلك بدأ بطرح ما يسميه دارسو أعماله، «حقيقتين راسختين تتعلقان بالكتابة»، ويقوم هو بتحليلهما على طول فصول الكتاب وصفحاته: «اللغة» بوصفها معطى جماعياً وراسخاً في الزمن»، و»الأسلوب» بوصفه معطى فردياً يكاد يكون فيزيولوجياً». > في القسم الأول من الكتاب، والذي ينقسم متنه الرئيسي الى قسمين، يقوم بارت بنوع من التحليل المسهب لعدد متنوع من الأنماط الكتابية، ومنها بالتحديد النمط الذي يسميه سياسياً. وهنا في لغة شديدة السجالية، يتحدث بارت بالتفصيل عن أنواع الكتابة الثورية والبورجوازية والحزبية والماركسية وصولاً الى الكتابة التي يسميها «ثقافوية»، ويفرقها عن كل أنواع الكتابات السابقة ليس من منطلق أن هذه ليست ثقافية بل من منطلق أن الكتابة الثقافوية يكون موضوعها ثقافياً نخبوياً بالتحديد، وبالتالي موجّهة الى أنماط معينة من القراء على عكس الأخرى التي، بثقافتها تتوجه الى القراء العاديين غالباً. ويفيدنا بارت هنا، بأن كل هذه الأنواع ينتهي بها الأمر الى خلق «أسطوريات» كتابية تتعلق في الشكل الكتابي، ويتم من خلالها التنديد بزيف العلاقة بين اللغة والعالم. أما في القسم الثاني من الكتاب، فإن المؤلف يحاول أن يرسم الخطوط العريضة لما يعتبره تطوّر تاريخ الكتابة نفسه. وفي هذا الصدد، نراه يتوقف بخاصة، عند ما يعتبره «تطور فعل الكتابة» انطلاقاً من نوع من وخز الضمير لدى الكاتب، لا سيما في فرنسا القرن التاسع عشر، حيث نراه يتوقف في صورة خاصة عند فلوبير ثم عند «صمت» رامبو ومالارميه الذي يحيله بارت الى تلك الحيادية أو «الصفر» في درجة الكتابة بوصفه استعادة لبراءة هذه الأخيرة... انطلاقاً منها، يرى بارت وصولاً الى زمنه نوعاً من المصالحة بين الأدب والعالم. > على رغم التراوح بين التعقيد والتبسيط في هذا الكتاب، فإنه كان ذا تأثير كبير حين صدوره، بانياً الشهرة الفكرية العميقة والكبيرة لذلك الكاتب الذي كان لا يزال لديه الكثير مما يعطيه يوم الخامس والعشرين من شباط (فبراير) 1980، حين كان خارجاً من «الكوليج دي فرانس» فصدمته شاحنة صغيرة. كانت الصدمة قوية غير أنها لم تقض عليه للتوّ، بل أغرقته في غيبوبة وآلام انتهت بعد ذلك بشهر، حين أسلم الرجل الروح وسط قلق الحياة الثقافية الفرنسية كلها وترقّبها. مع موته المأسوي ذاك، بدأت، على أي حال، حياة جديدة لذلك الباحث والناقد والفيلسوف الذي شغل الأوساط الأدبية الفرنسية طوال أربعة عقود من الزمن وكان، في شكل أو في آخر، وراء معظم حركات التجديد التي طرأت على النقد الأدبي والفني منذ أواسط سنوات الخمسين على الأقل. > نشر رولان بارت مقالاته الأولى عام 1942. لكنه في البداية، لم يلفت الأنظار كثيراً. فكتابته كانت أكاديمية تحاول أن تفسر وتحلل، غير أنه وبالتدريج، بخاصة مع ولادة التيارات الأدبية والمسرحية ثم السينمائية الجديدة في سنوات الخمسين، طوّر أساليبه في شكل جعلها تُحدث تلك الثورة التحليلية التي ارتبطت به. لكن هذا أدى في الوقت نفسه، الى ولادة العديد من ضروب سوء الفهم التي ارتبطت باسمه وبكتاباته، بخاصة أن الرجل اعتُبر في كثير من الأحيان، «على الموضة»، وبدأ دارسوه ومترجموه يفصلونه عن محتويات كتاباته الحقيقية ليحولوه الى «أسطورة» جديدة من أساطير القرن العشرين، ولينسبوا إليه كل ضروب الغرابة والعبثية والبنيوية والتركيبية. ولئن كان القراء العرب قد لاحظوا مثل هذا التحريف لمنهج (أو مناهج) رولان بارت، منذ اكتشفه المثقفون العرب، مبهورين مدهوشين كدأبهم دائماً في الاندهاش أمام كل ما لا يفهمونه، فإن ما لا بد من قوله أن المثقفين العرب لم يكونوا الوحيدين الذين أساؤوا لرولان بارت هذه الإساءة، بل إن بعض الفرنسيين أنفسهم، الذين كتب بارت عنهم وبلغتهم معظم كتاباته، لم يفتهم أن يسيئوا فهمه وأن يحولوه الى صنم يبجَّل من دون فهم وإدراك. ولعل أسوأ ما في هذا الأمر، أن بارت نفسه سرعان ما رضخ للصورة التي صارت له، وصار يقلدها بحيث أن العديد من كتاباته الأخيرة تحوّل ليصبح ما كان من شأنه في ذلك الحين أن يتخذ سمة الأحجيات. لذلك، كان لا بد، مع رحيل بارت، من ظهور أعماله الكتابية تباعا ًفي تسلسلها التاريخي، بما أعاد وضعه في مكانه الصحيح، وحتى يدرك القراء أن أسلوب بارت كان أكثر بساطة وأكثر ذكاء وأكثر قدرة على التحليل مما اعتقد كثر. > لم يكن الغموض همّ رولان بارت الأول، بل كان التواصل هو هذا الهمّ. كان الرجل حريصاً على إيصال أفكاره الى الناس، حرصه على استبدال أسلوب النقد السردي الوصفي بأسلوب تحليلي تفكيكي يدرس العمل من مختلف جوانبه. ولعلنا لا نكشف هنا سراً، إن نحن أشرنا الى أن واحداً من هموم بارت الأساسية (وعلى عكس ما تصور كثر)، كان يكمن في ربط الإنتاج الذهني (فناً أو أدباً) ببيئته الاجتماعية وبحركية المجتمع، تشهد على هذا كتاباته نفسها في تحليل الأعمال المنتجة ونقدها، لكن يشهد عليه، أيضاً، اهتمامه المبكر بتحليل «الأساطير» الصغيرة التي تتألف منها تفاصيل الحياة اليومية، من تحليل الأغاني الشعبية الى تحليل الموقع الاجتماعي للدراجة النارية، الى تحليل علبة سجائر الغولواز، الى آخر ما هنالك من صنميات درسها وحللها في مقالات صحافية ثم جمعها في كتابه الشهير «أسطوريات». > السمة الأساسية الثانية من سمات عمل رولان بارت، كمنت في عدم ترجيحه كفة فن أو إنتاج ثقافي على كفة إنتاج آخر. فهو الذي بدأ ناقداً أدبياً ومسرحياً، نراه وفي العديد من المجالات، يكتب بعض أفضل النصوص وأعقدها. وكان يقول على الدوام، أن على الباحث اللحاق بالحركة الدينامية للإنتاج الثقافي من دون أن يخيّل إليه، ولو للحظة، أنه هو الذي يخترعها. هذا كله هو الذي صنع أهمية رولان بارت وشهرته وجعله واحداً من كبار المؤثرين في حركة النقد التحليلي عبر كتب صارت اليوم كلاسيكية، مثل «الكتابة عند درجة الصفر» الذي تحدثنا عنه هنا، و «أسطوريات» و «ميشليه بقلمه» و «حول راسين» و «دراسات نقدية» و «النقد والحقيقة» و «نظام الموضة» و «إمبراطوريات الإشارات» و «ساد» و «لذة النص» و «مقاطع من خطاب غرامي» وغيرها...

مشاركة :