يبدو أنّ عقد الصفقات يلقى اليوم رواجاً. والصفقات هي تعويذة دونالد ترامب. وسعى قادة «أوبك» الى إقناع العالم بصفقتهم. لكن، هل ستكلل جهود أوبك بالنتيجة المرجوّة، أي رفع أسعار النفط؟ ولا شك في أن أسعار النفط قد ترتفع أو تنخفض بناء على معطيات كثيرة. وثمة أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت محاولة أوبك سترفع الأسعار على الأمد الطويل. وجواب هذا السؤال يقتضي النظر الى أبعد من مستويات خفض الإنتاج النفطي، التي التزمت بها الدول، وما إذا كان سيحصل غش في التزام الحصص. ولن تنجح أي صفقة ما لم تجبه الأسباب الجذرية لانخفاض أسعار النفط. وكان انهيار أسعار النفط في 2014، حالة كلاسيكية مما يسميه الفيلسوف اللبناني الأميركي نسيم طالب، حادث «البجعة السوداء» (وهو حادث لا يمكن توقعه). وعلى رغم استعادة الخام في 2016 شيئاً من قيمته، لا يزال سعر برميل النفط حالياً أدنى بـ50 في المئة مما كان عليه قبل عامين ونصف العام. وكما هي الحال في حوادث «البجعات السود»، نجم الانخفاض في أسعار النفط في 2014 عن عدد من العمليات المتوازية التي عزّز بعضها بعضاً، وانتهت الى تغيير وجه السوق في شكل غير متوقع. وفي الإمكان تقسيم هذه التغيرات إلى ثلاث كتل رئيسية: أولاً، النفط هو أضخم سلعة عالمية ويتداول بالدولار الأميركي. فسعر صرف الدولار يـــؤثر فيـــه بالغ التأثير. وسعر النفط يتأثر كذلك في شكل غير مباشر، بأسعار الفائدة التي يحددها الاحتياطي الفيديرالي الأميركي. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ارتفع الدولار إلى أعلى مستوياته مقابل سلة العملات منذ 2003، وهو اليوم أكثر بـ40 في المئة من أدنى مستوياته في 2011. والغريب، أن السبب الرئيسي وراء المكاسب الأخيرة للدولار هو الوعود الاقتصادية التي أطلقها الرئيس الأميركي المنتخب دونالـــد ترامب. فهو أعلن أنه يريد التخلي عن سياسة الاحتياطي الفيديرالي المرنة في السنوات الأخيرة وسياسة تقليص أسعار الفائدة. وإذا ما كان الدولار القوي جيداً لاقتصاد أميركا والعالم هو موضوع نقاش ساخن (معظم الاقتصاديين يخالفون هذا الرأي). لكنه (الدولار القوي) خبر سيئ على أسعار النفط، ولا يسع أوبك القيام بما يعتد به إزاء ذلك. وعامل التأثير الثاني هو مستوى الطلب على النفط، الذي هو خارج نطاق نفوذ أوبك. والنمو الاقتصادي خارج الولايات المتحدة، وتحديداً في الصين، تباطأ، وهذا، بدوره، قلّص استهلاك النفط في الأسواق الناشئة الرئيسية. لكن هذه ليست الصورة كاملة. والأهم من ذلك، أن العالم خطا خطوة كبيرة نحو ترشيد استخدام الطاقة. ومن الأمثلة الواضحة على الانخفاض في حجم استهلاك الوقود السائل في المحركات عما كان عليه في التسعينات، انخفاضه أكثر من 10 في المئة في نقل البضائع، و20 في المئة في السيارات و30 في المئة في مجال الطيران. ودعونا لا ننسى أن هذا التحول منظم ومتدرج، ولم يحصل بين ليلة وضحاها. والعالم لن يعود إلى تقنيات غير ناجعة وبائتة، بل سيستمر في زيادة فاعلية الطاقة في المستقبل. وأخيراً، ثمة جانب وثيق الصلة بالسعي الى زيادة الإنتاجية من طريق رفع القيود عن السوق وتدخل الحكومات. وفي الإمكان القول أنّ الحدث الأكثر تأثيراً، والذي أدى إلى انهيار الأسعار، كان ثورة النفط الصخري. ففي حزيران (يونيو) 2014، صارت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، متجاوزةً روسيا والسعودية للمرة الأولى منذ 1972. وفـــي الواقع، أخذت أميركا دور المنتج العالمي البديل الذي يمكنه، قبل غيره من البلدان، زيادة أو خفض الإنتاج استجابة لتقلبات الأسعار. وفي أوائل 2015، بلغ إنتـــاج النفط في أميركا أوجه: 9.6 مليون برميل يومياً. ونتيجة لانخفاض الأسعار، تدنى مستوى الإنتـــاج هذا مذّاك بمقدار 900 ألف برميل، لكن في وسع الشركات الأميركية أن ترفع الإنتاج بسرعة إلى 10 مليون برميل وأكثر. وتعود هذه القدرة الى ميـــزة تكنولوجية لسبل استخراج النفط الصخري: نظراً الى صغر حجمها، ليس حفر آبار جديدة باهظ الكلفة. لذا، يمكن زيادة حجم الإنتاج بسرعة، على خلاف ما هي عليه الحال في الآبار النفطية الطبيعية الكبيرة مثل حقول النفط في غرب سيبيريا. لكن لنفترض أن أوبك ستلتزم وعــــدها بخفـــض الإنــتاج، وأن روسيا ستقلّص بالفعل إنتاجها 300 ألف برميل يومـــياً. ما الذي سيحدث عندها؟ السوق، ستظهر الإعجاب بانضباط المنتجين والمصدرين، وتتفاعل مع الخطوة هذه مــــن طريق ارتفاع متواــــضع في أسعار النفط (متواضع تماشياً مع التخفيـــضات المتــــواضعة المعلنة). لكن بعد ذلك، هذا الارتفاع في الأسعار سيسمــح للولايات المتحدة بضخ كميات أكبر من النفط الخـــام. والنفط هذا، في نهاية المطاف، سيملأ الفراغ في السوق التي أخلتها أوبك، ويجعل اتفاق خفض الإنتاج من غير معنى، ويطيـــح أثره. فمرحباً بكم في عالم الاقتصاد الحجري! ودعونا لا ننسى أنه في حملته الانتخابية، وعد ترامب برفع القيود البيئية عن الإنتاج النفطي، التي فرضت في عهد أوباما، وخفض الضرائب على شركات النفط. وهذه السياسات قد تساهم في تعزيز إنتاج الخام الأميركي. وهذه أخبار سيئة للاقتصاد الروسي وأوبك. لكن، لماذا احتفى أعضاء مجلس الدوما الروسي بدونالد ترامب في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) (إثر فوزه بالانتخابات)؟ ومن الناحية الاقتصادية، فهو يجسّد أكثر ما تخشاه روسيا: سعر مرتفع للدولار ودعم للإنتاج الأميركي من النفط الصخري الذي يطيح الآمال بانتعاش أسعار النفط الخام. وعلى رغم ذلك، يُنظر إلى الرئيس الأميركي المنتخب باعتباره حامل لواء الحركة المناهضة للعولمة العالمية. ومن الواضح، أنّ الأيديولوجيا انتصرت على الاقتصاد، على الأقل، الى اليوم. ومع مرور الوقت، قد يصمد التقارب بين التيارات الأيديولوجية، لكن بعض هذه التيارات، كما يحدث في كثير من الأحيان في السياسة الواقعية، قد ينزلق الى المصلحة الذاتية الضيقة. * خبير اقتصادي في شؤون الطاقة، ومستشار سابق في إدارة الرئاسة الروسية، عن «موسكو تايمز» الروسي، 2/12/2016، إعداد علي شرف الدين
مشاركة :