العالم كله يرى ويسمع دولة كبرى تجاهر برعاية الميليشيات الإيرانية، وتسلحها وتحميها من أي عقاب، ثم يحرص على صداقتها، ولا يقطع تجارته معها، ولا يدعو إلى إدانة إرهابها. العربإبراهيم الزبيدي [نُشرفي2016/12/14، العدد: 10485، ص(8)] كانوا معذورين، إلى يوم أمس، الكثير من السياسيين والكتاب العراقيين والعرب، وحتى الأجانب، حين يعتبرون العراق دولة، فيستنكرون بعض سلوك رئيس أو وزير أو رئيس برلمان أو نائب أو مدير أو سفير، ويحتجون على صدور قانون، وعلى عدم صدور آخر، ويطالبون بمعاقبة خائن أو قاتل أو مختلس. ولكن الأوامر والإرشادات التي أملاها الولي الفقيه على “أولاده” المخلصين، عمار الحكيم ورفاقه في طهران، لم تُبق لهم عذرا ولا ذريعة. فهي إعـلان مُجسَّد ومعلن وصـريح عن زوال الدولة الوطنية العراقية، شرعا وقانونا، وعن ضم العراق، نهائيا، إلى أملاك الجمهورية الإسلامية، ولو كره الكارهون. ألم تروْهم في حضرته واجمين خاشعين، يستمعون إليه وهو يبشرهم بأن “مستقبل العراق مشرقٌ للغاية”، ويبارك لهم تحالفهم الذي اعتبره “حدثا مهما”، ويُبلغهم بأن الحشدَ الشعبي “ثروة عظيمة، وذخرٌ لليوم والغد في العراق، وينبغي دعمُه وتعزيزه”؟ ألم تسمعوه وهو يبين أنه يقدر أداء حيدر العبادي فقط لتضامنه مع الحشد، وليس لأي شيء آخر؟ أما عمار الحكيم فقد ثمن “وصايا” المرشد الأعلى، واستعرض لجنابه تقريرا عن عملية تشكيل التحالف الوطني، والتدابير المتخذة لتعزيز مسيرته، مؤكدا أن أهم نتائج التحالف هي المصادقة على قانون الحشد الشعبي. إذن فإن الولي الفقيه، في هذه المقابلة التاريخية الفاصلة، أمَر، شرعا، وقانونا، وعُرفا، بتعيين الحشد الشعبي حاكما شرعيا وحيدا لمستعمرة العراق، ولو كره الكارهون. بعبارة أخرى، لقد انتهت صلاحيات فؤاد معصوم، ونوابه الثلاثة، نوري المالكي، وإياد علاوي، وأسامة النجيفي، واُلحِق حيدر العبادي وإبراهيم الجعفري وسليم الجبوري وجميع نواب البرلمان، سواءٌ منهم التابعون لأحزاب التحالف “الوطني” أو المعارضون السنة والأكراد والمسيحيون، وأصبحوا جميعا “ندّابات”، و“لطامات” مُستأجرات لدى هادي العامري وأبي مهدي المهندس، القائدين المخلصين المعتمدين الوحيدين لدى قاسم سليماني. وكما ترون، لقد أسر الإيرانيون العراق الموغل في التاريخ، والمُتخم على مر القرون، بكل عظيم من القادة والمفكرين والمبدعين، شعرا وفنونا وفلسفة وثورات وانتصارات، وأذلوه، ولفوا حول رقبته وعلى يديه وقدميه سلاسل الذل والمهانة، وساقوه ذليلا ورموا به بين يدي من لا يرحم ولا يفهم ولا يخاف من يوم حساب. أما نحن، ففي كل مرة كنا نكتب فيها أن العراق مستعمرة إيرانية كانت تهبّ علينا عواصف الشتائم ورياح الضغينة وأفانين الاتهامات بالطائفية والعمالة من جيوش مجيشة من كتاب ومعلقين تنضح تعليقاتهم وردودهم بطعم واحد هو طعم الغرور المتعالي، والناظر إلينا بعين السيد إلى المَسود، والقوي إلى الضعيف، والمحتل إلى أسراه وعبيده ورعاياه. حتى جاء اليوم الأسود الرديء فيعلن الولي الفقيه، في لقائه بعمار الحكيم ورفاقه في طهران، بعظمة لسانه، أن زمن الدول التي تحكمها القوانين، ويديرها الخبراء والمتخصصون في السياسة والمال والاقتصاد والدبلوماسية والتربية والتعليم وشؤون الماء والكهرباء والري والزراعة والعمارة والمجاري قد ولى إلى غير رجعة، وأصبح المسلح المتخرج من حسينية أو مقهى أو مضافة شيخ عشيرة قائدا ومشيرا ومُنظرا ومُخططا ومٌبرمجا وآمرا وناهيا، ولا يملك “أثخن” رئيس أو وزير أو مدير إلا أن ينحني أمامه، ويقدم له السلام، أو أن يجد نفسه سجينا أو متهما بوهابية أو داعشية أو بعثية. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. والمحزن أن العراق ليس الوحيد الذي دخل في عهد حكم العصابة. بل إن إيران ذاتها تحكمها عصابة، بثياب الحرس الثوري، وفيلق ولي الأمر، وقوات التعبئة الشعبية، وفيلق القدس، وكتائب الاستخبارات والأمن الوطني. وفي سوريا الحكمُ للعشرات من العصابات. وفي اليمن عصابة. وفي لبنان عصابة. والنية “ماشية” على تعميم حكم العصابة في السعودية والبحرين والكويت وفلسطين، بعد إزالة إسرائيل من الوجود، عن قريب. ففي كلمة أمام مؤتمر طهران للأمن في غـرب آسيـا، الأحـد، قـال وزيـر الـدفاع وإسنـاد القوات المسلحة الإيرانية العميد حسين دهقان “إن إيران مستعدة لأي احتمالات في ما يخص شن عدوان أميركي – صهيوني” ضدها. وحذر من تداعيات شن الـولايات المتحـدة والكيـان الصهيوني عدوانا ضد إيران، مـؤكدا أن “إحدى تداعيات هذه الحرب ستكون نهاية الكيان الصهيوني”. والآن، وبعد كل هذه المقدمات المتلاحقة، نصل إلى خلاصة القول. إن داعش عصابة. وثابتٌ أنها أفظع أنواع العصابات التي شهدها التاريخ، وأكثرها همجية وتوحشا وحيوانية، ولكنها محاصرة، وملاحقة ومستهدفة من أشد جيوش العالم خبرة وعلما وسلاحا وتمويلا، لا في العراق وحده، ولا في سوريا وحدها، بل في جميع أرجاء العالم. فخلاياها النائمة مطاردة في أوروبا والدول العربية والآسيوية والأفريقية، كافة، ولا يمر يوم إلا ونقرأ أو نسمع أخبار سقوط مجنّديها وجواسيسها في أيدي هذه الحكومة أو تلك. وها هي تقترب من نهايتها، يوما بعد يوم، ولن يطول بها الزمن حتى يُصبح قادتها وأفرادُها وأنصارها قتلى أو في السجون. ولكن العصابة الأخرى التي تبسط هيمنتها، مباشرة أو بواسطة طوابيرها الخامسة ووكلائها وجواسيسها، على دولة العراق ودولة سوريا، ودولة لبنان، ودولة اليمن، وعلى نصف فلسطين، وتهدد دولا أخرى عديدة، والتي تفعل في كل هذه الأرض الواسعة الواقعة تحت سطوتها نفس ما يفعله داعش، وزيادة، لا نجد دولة واحدة من الدول التي تتغنى بمحاربة الإرهاب “الإسلامي” ترسل جنديا واحدا لمعاقبتها على جرائمها. بل إن العالم كله يرى ويسمع دولة كبرى تجاهر برعاية الميليشيات الإيرانية، وتسلحها وتحميها من أي عقاب، بل تشاركها القتل والحرق من الجو ومن البحر وعلى الأرض، ثم يحرص هذا العالم المنافق على صداقتها، ولا يقطع تجارته معها، ولا يدعو إلى إدانة إرهابها. ألم يعلن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب مرارا أن أولى أولوياته القضاءُ على إرهاب داعش، وأن إيران أصل كل خراب، ثم يعلن في الوقت نفسه أنه “يذوب” حبا بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حليف إيران، حتى وهو يرى طائراته وصواريخه تدك المنازل على رؤوس أصحابها المدنيين، وتحرق المدارس والملاجئ والمستشفيات وأسواق الخضار؟ فإذا جاء اليوم المبارك السعيد وكُنس داعش من نينوى والرقة، وتحرر آخر شبر عراقي وسوري من شروره، هل سنرى العالم الذي قهَرها بطائراته وصواريخه وأقماره الصناعية وبوارجه الحربية ومخابراته وجيوشه الجرارة يستدير، بصدق وجدية وشرف، ليخلص البشرية من داعش الآخرى الذي لا يختلف عن الأول في التخلف والهمجية وانتهاك الحرمات؟ أم إن داعش البغدادي إرهـاب، وداعش الولي الفقيه جهاد؟ كاتب عراقي إبراهيم الزبيدي :: مقالات أخرى لـ إبراهيم الزبيدي داعش إرهاب وداعش جهاد, 2016/12/14 ماذا يريد العراقيون من ترامب؟, 2016/12/06 عن أحوال القوى الرديفة في العراق, 2016/11/29 ملاحظات عاجلة على التسوية التاريخية في العراق, 2016/11/22 نحن وإيران، من أوباما إلى ترامب, 2016/11/20 أرشيف الكاتب
مشاركة :