كان الورق قد أصبح متوافرا إلى حد ما، في زمن ابن بطوطة، لكن الرجل لم يكن يملك الوقت الكافي لتدوين ما عرف فيما بعد بـ«الرحلة». وعندما استقر أخيرا في بلاط سلطان فاس، جلس يلقي مذكراته على شاعر البلاط، حيث تجمع للعالم فيما بعد، أشهر رحلة حول العالم في تاريخ العالم. أربعون بلدا وأربع زوجات في كل بلد ومناصب حكومية وجاه وهدايا ومركب تضربه العاصفة الشديدة فيضطر الرحالة الطنجاوي إلى وضع زوجاته الأربع على جزء منه، ويتعلق هو بطرفه حتى الصباح، عندما يمر قارب صيد فينشله رجاله. ماذا يحدث بعد ذلك؟ يكمل القاضي رحلته، أو إملاؤها، جذابة الفصول، رخيمة التفاصيل، مثيرة المنعطفات حتى يخيل إليك أنك تبحر في عجائب ألف ليلة وليلة، وليس في عجائب الأمصار وغرائب النهار. يشكك البعض في بعض روايات المسافر الشهير كما شككوا في بعض روايات ماركو بولو، نظيره الإيطالي. لماذا؟ لأن الحكاية تستدعي شيئا من سحر المخيلة. فمولانا ابن بطوطة عندما انكب على رحلته الأسطورية لم يكن يهدف إلى وضع أثر أدبي كمثل التحفة التي جمعها فيما بعد، وإنما كان هدفه بادئ الأمر الحج إلى مكة. ما بعد الحج الأول كان أقدار السفر ومباهج الاكتشاف ومتعة المغامرة وما يرافقها من مفاجآت. فمن حاكم يهديه بيتا، ومن آخر يخلع عليه الأطيان، ومن ملكة توكل إليه مهمة القضاء في رعيتها، كما فعلت ريهندي خليجي، أو خديجة، ملكة المالديف. وقد أحصى ابن بطوطة منها 2000 جزيرة، وعاش سبعة أشهر يأمر وينهي ويحكم في قضايا الإرث والزنى، ثم شعر بالملل ففر ونوى العودة للقيام بانقلاب على الملكة وزوجها الوزير، الذي هو الحاكم الفعلي. لكن يعدل الطنجي عن ذلك ويقرر «الاستقرار» قليلا في سرنديب (سريلانكا اليوم) التي يعتبرها، مثل نده ماركو بولو، أجمل بقاع الأرض. في القرن الرابع عشر كان من ينتقل من بلدة إلى أخرى يعتبر مسافرا. وبمقاييس تلك المرحلة، أو أي مرحلة، يعتبر ابن بطوطة مذهلا. وقد حاولت معرفة مدى دقته بالبحث عن عدد جزر المالديف اليوم: ليست 2000 بل 1190. ولا يهمك يا مولانا.
مشاركة :