أحمد حلمي سيف النصر (شيء يملكه أسمى من طبيعة البشر.. فقد كانت رسالة هذا الرجل تنبعث من فطرة قلبه وروحه، ولهذا يجب أن يستمع ويعمل الرجال له وليس لأي شيء آخر لأن كل شيء غير ذلك إنما هو هباء تذروه الرياح). هكذا وصف المستشرق والباحث الغربي كارلايل محمداً - صلى الله عليه وسلم- في كتاب الأبطال، وبأنه كان واحداً من هؤلاء الذين لا يستطيعون إلا أن يكونوا في جد دائماً، هؤلاء الذين جبلت طبيعتهم على الإخلاص، فلم يقم هذا الرجل بإحاطة نفسه داخل إطار من الأقوال والصفات الطيبة، لكنه تفرد مع روحه ومع حقيقة الأشياء يستمد منها ما نطلق عليه الإخلاص. نعم.. كان عظيماً وإماماً في الأخلاق، كمل أدبه مع ذي العزة والجلال، فزينه وكمله بأفضل الشمائل والخصال، فهو مع ربه أكمل الناس أدباً وأشدهم خشية له وخوفاً منه إني أخشاكم لله وأتقاكم له قام في جوف الليل حتى تورمت قدماه من القيام وصام النهار فما مل ولا سئم، بل واصل الصيام.. كان دائم البِشر طليق الوجه بالسرور، يقول جرير بن عبد الله (ما لقيت النبي إلا تبسم في وجهي). أعظمهم محمد يقول مايكل هارت في كتابه العظماء مئة وأعظمهم محمد- صلى الله عليه وسلم- عن سبب اختياره لمحمد وكونه الأعظم فقال: (إن اختياري لمحمد ليقود قائمة أكثر أشخاص العالم تأثيراً في البشرية قد يدهش بعض القراء وقد يعترض عليه البعض، ولكنه كان (أي محمد) الرجل الوحيد في التاريخ الذي حقق نجاحاً بارزاً في كل من المستوى الديني والدنيوي). وكان من بين ممثلي حركة التنوير في أوروبا من رأوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- مشرعاً حكيماً، ورسولاً للفضيلة، وناطقاً بكلمة الدين الطبيعي الفطري، ومبشراً بالرحمة الإلهية للناس أجمعين ومن هؤلاء رودي بارت وهو عالم ألماني معاصر، اضطلع بالدراسات الشرقية في جامعة هايدلبرج، وكرس حياته لدراسة علوم العربية والإسلام، وصنف فيها عدداً كبيراً من الأعمال، منها ترجمته للقرآن الكريم التي استغرقت منه عشرات السنين وأصدرها بين عامي 1963 و1966 وله كتاب عن النبي صلى الله عليه وسلم. يقول بارت، كان العرب يعيشون منذ قرون طويلة في بوادي وواحات شبه الجزيرة، يعيثون فيها فساداً. حتى أتى محمد -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الإيمان بإله واحد، خالق بارئ، وجمعهم في كيان واحد متجانس. سيد الأنبياء وإمام الرحماء، كان يرحم الصغير والكبير ويعطف على الجليل والحقير، قال أنس بن مالك: (ما لمست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف رسول الله، ولقد صحبت رسول الله عشر سنين، ما قال لي يوماً لم فعلت أو لم لم تفعل؟) كان جواداً كريماً، يعطي الشاة والبعير وما كان في بيته صاع من شعير وما سئل - عليه الصلاة والسلام - شيئاً فقال: لا يقول عنه تلميذه حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (كان النبي أجود بالخير من الريح المرسلة). وقال إدوار بروي وهو باحث فرنسي معاصر، وأستاذ في السوربون، جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، النبي العربي يبشر العرب والناس أجمعين، بدين جديد، ويدعو للقول بالله الواحد الأحد، كانت الشريعة في دعوته لا تختلف عن العقيدة أو الإيمان، وتتمتع مثلهما بسلطة إلهية ملزمة، تضبط ليس الأمور الدينية فحسب، بل أيضاً الأمور الدنيوية، فتفرض على المسلم الزكاة، والجهاد ضد المشركين، ونشر الدين الحنيف، وعندما قبض النبي -صلى الله عليه وسلم-، عام 632م، كان قد انتهى من دعوته، كما انتهى من وضع نظام اجتماعي يسمو كثيراً فوق النظام القبلي الذي كان عليه العرب قبل الإسلام، وصهرهم في وحدة قوية، وهكذا تمت للجزيرة العربية وحدة دينية متماسكة، لم تعرف مثلها من قبل. دفع السيئة بالحسنة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، وكان حليماً لا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، ولما أراد الله هدي زيد بن سعية، قال زيد: لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، فقلت يا محمد، هل لك أن تبيعني ثمراً معلوماً لي فباعني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب، فلما حل الأجل أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه وهو في جنازة مع أصحابه، ونظرت إليه بوجه غليظ وقلت له يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب إلا مطلاً، ونظرت إلى عمر وعيناه تدوران في وجهه ثم رماني ببصره فقال يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتصنع به ما أرى؟ فلولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، وقال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير ذلك منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزد عشرين صاعاً من تمر مكان ما روعته فذهب بي عمر فأعطاني حقي وزادني عشرين صاعاً، وقال لي ما دعاك إلى أن فعلت ما فعلت وقلت ما قلت؟ قلت: يا عمر لم يكن من علامات النبوة شيء إلا عرفته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً، وقد خبرتهما، فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، وأشهدك أن شطر مالي صدقة على أمة محمد ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر. سيد المتواضعين كان صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الكبر، وكان يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله، كيف لا وهو الذي كان يقول: آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد وكان يجيب الدعوة، ولو إلى خبز الشعير ويقبل الهدية، فعن أنس رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة (الدهن الجامد المتغير الريح من طوال المكث) فيجيب، وكان صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة الحر والعبد والغني والفقير ويعود المرضى في أقصى المدينة ويقبل عذر المعتذر، ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم في المصافحة والمحادثة والمجالسة أنه كان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى ينزع الرجل يده، ولا يصرف وجهه من وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له، وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: كان صلى الله عليه وسلم يقبل بوجهه وحديثه على أشر القوم يتألفهم بذلك.. صلى الله على محمد فقد كان قرآناً يمشي على الأرض. وشهد بعظمة أشرف خلق الله أعظم ملوك الروم هرقل، بعد أن جمع معلومات عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وعن أتباعه ودينه، من خلال الأسئلة التي وجهها إلى أبي سفيان ومن معه عن طريق الترجمان، حيث قال: فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين. أكمل الإيمان وعلى الرغم من حسن خلقه صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يدعو الله بأن يحسن أخلاقه، ويتعوذ من سوء الأخلاق، وتسمعه عائشة رضي الله عنها يقول: (اللهم كما أحسنت خَلقِي فأحسن خُلقي).. ويخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق)، وهو الذي تجمعت فيه محامد الأخلاق، لكنه كثير الدعاء في كل صلاة.. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. سأله النواس بن سمعان رضي الله عنه عن البر والإثم فقال صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم: ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس)، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: (اللسان والفرج). وكان صلى الله عليه وسلم يقول لصحابته ولنا من بعدهم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، وذكر لنا صلى الله عليه وسلم أنه (..ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق). مولد الهدى كان ميلاد النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم- في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها جزيرة العرب من فرقة وتناحر، وارتماء في أحضان الفرس والروم، وتفشي الظلم وظهور الفساد في البر والبحر. في ذلك الظرف ولد الهدى والرحمة والأمل، ولد الطفل محمد اليتيم ليكون رحمة الله للعالمين، فأخرج الله به خير أمة أخرجت للناس وارتضى الله لأمته الإسلام وتعهد لها بأن يظهره على سائر الأديان، وجمع الله به العرب على خير مجمع فأعزهم بدينه وأكرمهم بصحبته وهزم عدوه وعدوهم بجهاده وأصحابه. إن تمام الاحتفال بمولد النبي وحقيقته أن نعمل قادة وشعوباً، وشباباً وشيباً، على إحياء دينه، ودراسة منهاجه وآدابه وسيرته، واتباع طريقته في السياسة والاجتماع، في التعليم والاقتصاد، في العدالة والرحمة والإنسانية. إن حقيقة الاحتفال بهذا الحدث الكبير أن نعمل جميعاً على تطهير مجتمعنا من رواسب سموم بثها المرجفون فينا.. في العقول والنفوس، فأفسدوا في بعضنا الأخلاق والأعمال، وأوهنوا الروابط الاجتماعية بين الكثير من الناس. وعلينا أن نعمل جميعاً على تهيئة جيل مؤمن بالله، متزين بالأخلاق العربية المحمدية متحل بروح التضحية والإيثار ونكران الذات، حينئذ يكون الاحتفال بالذكرى قد نفعنا.
مشاركة :