لا شك بأن كل فنان تشكيلي، قام ويقوم فنه، ويتطور على عدة مرجعيات ثقافية ومقدرات شخصية. وهذه المقدرات الشخصية بلا شك هي في معناها الأول، ما يقصد به الموهبة الفطرية الأصيلة. والتي هي أس الإبداع وعموده القوي، بل هي لب العمل الإبداعي في كل الفنون والآداب، وفي هذا يقول الناقد الإنجليزي «ايليتز مايكلسون»: «في نفس كل إنسان يكمن نظام الخليقة، الذي يحكم الوجود، ولا تستطيع العوامل الخارجية، أن تؤثر في هذه النفس، ما لم تكن هذه العوامل منطوية على نظام مناسب فكل نفس بشرية، يكمن في ذاتها طابع لا يمحى لنظام دائم هو الذي يؤثر في الإنسان منذ بدء الخليقة». وهذه الأصالة الفطرية في داخل الإنسان الفنان، هي التي تجعل له بصمته الفنية المميزة له عن غيره. وليست هذه الفطرة الأصيلة، تكفي وحدها لإيجاد هذا التميز، وإنما تتميز وتبرز للعلن إذا أضاف لها حرية الرؤية، وتحريك الدوافع الشخصية الخاصة من ميل إلى البناء المعرفي، وشحذ الذوق الفني الذي هو بداخله. وهذا البناء المعرفي، وهو المرجعية الثانية لكل مبدع، ولكل فنان، لا تأتي إلا من الاستيعاب الجيد لثقافة المكان الأصل، والبيئة المعاشة، ثم روح التمرد علي التعود البصري المرئي والمألوف اليومي العادي، ثم التماهي مع الحديث والجديد في الإبداع الكوني.. وهو ما يطلق عليه المواكبة والحداثة فالعالم قد أصبح قرية ثقافية واحدة، ولكنها متنوعة في داخلها. ولقد استطاع الفن العربي التشكيلي الحديث، الذي أصبح يأخذ مكانه في الحركة التشكيلية العالمية، ولم يتأت له ذلك إلا بأنه قد بدأ ينطلق من المكان الأصل، بكل تراثه وحضاراته، ودينه القويم، نحو المكان الكوني الأرحب، الذي يرحب بالمبدع الأصيل ويفسح له المكان دون بطاقة غير بطاقة الفن الأصيل. وقد جاء كل هذا نتيجة مخاض عسير وصعب، فتح فيه الرواد الأوائل في التشكيل العربي الباب واسعاً للأجيال الجديدة، للدخول إلى رحاب الكونية الواسعة. ولم يصل هؤلاء الرواد القدوة إلى ما وصلوا إليه، إلا على انفتاحهم بتبصر وبتدبير، على كل المدارس الفنية المعاصرة. دون الانعزال والانفصال، عن الجذور والأصول. والثقافة الفطرية والمكتسبة. لقد أصبح التشكيل العربي في قمة نضوجه الآن وفي قمة تميزه عن غيره، وهذا النضوج يعني الاستقلالية شبه الكاملة عن الفن الأوروبي، وحتى الذين كانوا يقلدون هذا الفن الأوروبي عن ثقة وإيمان كامل، حاول الكثيرون منهم، أن يغيروا الكسوة الأوروبية إلى الكسوة العربية الإسلامية، وذلك بوجهة نظر حداثوية مواكبة ومعاصرة وغير جامدة ولا منغلقة. وما يلاحظه الناقد الفني، والمتلقي العادي، لهذا الفن التشكيلي العربي الحديث، هي محاولة إيجاد فن تجريدي عربي، يتناول طريقة العربي المسلم في التفكير الإيماني، وفي سبل الحياة المختلفة، وفي تناوله للأشياء من حوله، في واقعه اليومي، كما فعل التشكيلي الياباني والهندي، وهذا بلا شك سيقوده كفنان عربي، إلي رحاب الفن العالمي الواسع. وقد بدأت أوروبا فعلاً تهتم بهذا الفن الجديد والمميز وغير المقلد لها.
مشاركة :