«ما روزا» في القاهرة: عن امرأة تحتمل ما لا يُـحتمل

  • 12/16/2016
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

بريلانتي مندوزا، مخرج فيليبيني بات ذا شهرة واسعة في العالم. أما فيلمه «ما روزا» الذي عرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأخيرة، فيحمل اسم الشخصية الرئيسية فيه. هي امرأة تعيش في ضاحية للعاصمة مانيلا اسمها ماندا لايونج، بين الضواحي العشوائية المحيطة بها من كل جانب. إنها تشكل مثل غيرها نوعاً من أنواع الجهنم البشري الذي دأب مندوزا على تصويره في أربعة أفلام هي «سربيس»، و «لولا»، و «كابتف»، و«كاناتاي»، فهذا المخرج الذي ولد ونشأ في صفوف النخبة الإسبانية لم يخرج ضمن إبداعه السينمائي سوى أفلام تتعرض لحياة المطحونين والبؤساء من البشر الذين يشكلون غالبية سكان الفيليبين. «ما روزا» التي قامت بدورها الممثلة جاكلين جوزيه - ففازت بأفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» - أُم صارمة لا تظهر على وجهها الانفعالات إلا كظلال عابرة. رب أسرة من أربعة، زوجها نستور، الرجل القليل الحيلة، وولدان، الأصغر بينهما في سن المراهقة، وبنتان في المدرسة تفصل بينهما ثلاث سنوات. تمتلك روزا مشاركة مع زوجها كشكاً تبيع فيه أساساً حلويات وأشياء أخرى بسيطة تبتاعها من السوبرماركت وتقوم ببيعها بسعر أعلى قليلاً. لكن هذه التجارة محدودة الدخل لا تكفي لشراء الطعام القليل والملابس الرثة التي يرتدونها، فلجأت إلى تجارة مخدر «الأميفيتامين»، لتعوض عن قلة مواردها. نراها في الفيلم وهي تعد قروشها الضئيلة قبل أن تدفع ثمن الحلويات التي ابتاعتها من السوبرماركت، وتتعامل مع أفراد أسرتها بأسلوب فيه قسوة تخفي بها الطيبة الساكنة في أعماقها. في بداية الفيلم، نشاهد «ما روزا»، وهي تبتاع بضاعتها في السوبرماركت ثم تخرج إلى الشارع حاملة كيسين ثقيلين سائرة تحت مطر لا يكف عن الهطول سيلاً يملأ الحفر ببرك تخوض فيها وقد بلل شعر رأسها، وملابسها، وحذاءها، مطر يُخفي معظم الوقت ملامح الوجوه وأشكال الأجسام السائرة في الليل لا تظهر تحت أضواء المصابيح إلا أثناء لحظة خاطفة، يخفي الباعة الجائلين وهياكل العربات التي يدفعها أمامهم رجال عواجيز، والدراجات الهوائية المزودة بكابينة التي تدفعها سيقان الشبان والشابات بالراكبين فيها ويحولها إلى فوضى من الأشكال والأجسام والأذرع والوجوه يلتقطها المصور أوديسيه فلورس بآلة للتصوير محمولة بين يديه أو فوق كتفه ليجسد الفوضى والتفكك وعدم الاستقرار السائد في هذا المجتمع، تضيف إلى غموضه وفوضاه والشعور ببؤسه الأضواء البرتقالية التي تسقط من مصابيح الشارع وألوان جدران الحوانيت التي تبدو مطلية بلون البول الأصفر. تصل روزا إلى مسكنها الصغير المزدحم بفوضى الأثاث القديم الذي لا يترك مساحة لحركة المقيمين فيه لتجد زوجها نستور وقد تناول حقناً من المخدر احتفالاً بعيد ميلاده كما يقول. تعطي الأكياس التي جاءت بها إلى إحدى ابنتيها وتستخرج كيساً من مسحوق «الأميفيتامين» البلوري وتتعاون مع زوجها في تقسيم محتوياته إلى كميات صغيرة يضعانها في أكياس يتم إخفاؤها بحشرها في أوعية من البلاستيك طويلة. في تلك اللحظة يقتحم عدد من رجال البوليس مسكنهم ويقودونها مع زوجها إلى المخفر وهناك يهبطون معهما إلى باب صغير يدخلونهما منه إلى البدرون أسفل المكتب الذي يديرون فيه أعمالهم اليومية، وهنا تدور المفاوضات السرية فلا يجوز أن يتم تداولها في الجزء الرسمي العلني لجهاز الأمن. هنا، يدور نقاش مع ما روزا، حول القرار الذي عليها أن تتخذه، والذي يتبادل رجال البوليس الحديث عنه كأنهم يتناولون أمراً عادياً من أمور الحياة اليومية. يمزحون، ويحكون، ويتنهدون، ويصمتون أحياناً صمتاً له معنى المجهول المخيف: فإما أن تدفع الرشوة التي يعتبرونها نوعاً من الكفالة تسمح بالإفراج عنهما، رشوة مبلغها كبير للغاية وإلا قُدّما للمحاكمة بتهمة الإتجار في المخدرات وعقوبتها سنوات طويلة من السجن، وتشرد أسرتها، وضياع أولادها في المجتمع الذي لا يرحم أمثالهم من الناس.   سبيل النجاة ضمن المساومات الدائرة يقولون لها إن أرادت أن تنجو من المصير الذي ينتظرها أن تخبرهم عن اسم الشخص الذي يقوم بتزويدها بالمخدرات التي تبيعها هي بالقطاعي بصفتها تاجرة في أدنى المستويات. تتردد طويلاً ثم أخيراً حرصاً على أطفالها، متخيلة ما يمكن أن يحدث لهم إذا غابت سنين طويلة في السجن تستسلم لهم وتتصل بالرجل الذي يقوم بتموينها واسمه جومار. تتحدث معه على التليفون المحمول الذي استولى عليه صبي صغير السن يستخدمه رجال المخفر للقيام بأعمال مختلفة بعد أن تم إخراجه من أحد الملاجئ الخاصة بالأطفال المجرمين. يخرجه من الدرج الذي أخفاه فيه ساعة إحضارهم روزا مقبوضاً عليها إلى المخفر. يقبض البوليس على جومار بعد أن تقوم بتحديد موعد للقائه في مكان يتفقون معها عليه وفي المخفر يقومون بضربه وتعذيبه بغية الاهتداء إلى إجباره على الإفصاح عن شخصية التاجر الأكبر الذي يتعامل معه ليدفع لهم، لكنهم يكتشفون أنه أرسل رسالة نصية للضابط ذي الرتبة العالية الذي يحميه فيقطعون المكالمة فوراً ويُشبعونه ضرباً حتى يصاب بالإغماء. وعندما تحضر زوجته يتفاوضون معها فتخبرهم أن في إمكانها توفير نصف مبلغ الرشوة فقط، من هنا يشترطون على ما روزا وزوجها أن تحضر المبلغ المتبقي، فتستعين بأولادها الذين حضروا إلى المخفر فربما تمكنوا من جمع المبلغ الذي يطالبها به رجال البوليس. النصف الآخر من أحداث الفيلم يدور في النهار وفي الليلة التالية. ينطلق الأبناء الثلاثة لجمع المبلع المطلوب. أحدهم يدور في الحي حاملاً جهاز التلفزيون الذي كانوا يملكونه ويقوم ببيعه لأحد تجار الأشياء المسروقة، ثم يعود سائراً في الشوارع فيتعرض لتعليقات مهينة عن أمه. أما الابن الثاني، فهو مراهق غض وبريء فيقوم ببيع جسده إلى مثلي ثري مقابل المبلغ الذي يسعى إلى الحصول عليه في مشهد مؤلم للغاية، يصور اللقاء الجنسي الذي يحصل في غرفة أحد الفنادق المخصصة لمثل هذه اللقاءات. وتذهب إحدى البنتين إلى خالتها وتستجديها لكي تعطيها بعضاً من المال إنقاذاً لأمها. تتحمل الشتائم والإهانات التي تتعرض لها وينتهي اللقاء بأن المرأة تلين لطلبها مُظهرة ذلك التعاطف الخفي الذي كثيراً ما يحمله الفقراء لغيرهم من البؤساء. أخيراً يتبقى مبلغ لا بد من تسديده لدفع الرشوة التي يُصر عليها رجال البوليس بعد أن ذهب أحدهم إلى رئيس أمن المدينة لإعطائه نصيبه في الصفقة. يتم تصوير مشهد لرجل البوليس المسؤول عن العملية - بعيني ما روزا - وهو يقوم بارتداء ملابسه الرسمية، بلف الحزام حول خصره، وبتثبيت المسدس في غمده قبل أن يضع رزمة من الأوراق النقدية في جيبه لنشاهده بعد ذلك من الخلف سائراً في الليل إلى مكتب رئيس أمن المدينة فيرتفع الوقع المنتظم لكعوبه على إسفلت الشارع.   النهايات الموقتة تخرج ما روزا من المخفر إلى الشوارع التي ما زال ينهمر عليها سيل من المطر مخترقة زحاماً بالأشكال والأجسام الغامضة، الغارقة في ظلومات العوز والضياع والبؤس، لتذهب إلى مرابٍ هندي وترهن عنده التليفون المحمول الذي كان مملوكاً لابنتها، تساومه بإصرار لا يلين إلى أن يدفع لها مبلغ المال الذي تحتاج إليه لتضيفه إلى ما تبقى حتى يتم تسديد مجموع الرشوة المطلوب دفعها لرجال البوليس. نشاهدها تجري تحت المطر وقدماها تنغرسان في البرك بينما تصدح الموسيقى الإلكترونية. تجري وتجري إلى أن ينقض عليها الجوع والتعب فتتوقف لتبتاع أربع كرات معجنة مغروسة في السكر مرشقة في سيخ من الخشب وتتوقف لحظات لتأكلها. تلمح امرأة ورجلاً صاحبي محل ملابس وهما يغلقان حانوتهما وتسمع أصوات الواقفين في الشارع وهم يصرخون ناحيتها بكلمة آيس (أي الثلج) التي كانت تستخدم كتسمية لتجارة المخدرات. وعند آخر لقمة ترفعها إلى فمها تسقط دموعها فيهمس من يشاهدها وهو جالس في الصالة: لا يوجد ما هو أكثر إيلاماً من أن نرى هذه المرأة القوية تبكي بعد أن تحتمل طويلاً ما لا يحتمل.

مشاركة :