لم يفعل رئيس النظام السوري بشار الأسد في حلب، وقبلها في حمص وحماه وريف دمشق وغيرها، سوى ما ردّده أتباعه دائماً وبصوت عال منذ انطلاق الثورة السورية قبل ست سنوات: «الأسد أو نحرق البلد». إلا أن جديده، بعد هذه الأعوام من التدمير اليومي للبشر والحجر، أنه وضع اللافتة التي لم يكن يقبلها عقل بشري أو منطق سياسي، في صيغة «الأسد... ونحرق البلد» معاً وفي الوقت ذاته. والأيام الأخيرة في حلب من جهة، واحتفالات الأسد وأتباعه ومؤيديه بـ»الانتصار» من جهة ثانية، تقول ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شك. فالهدف، كما لم يعد خافـيـاً من وقـائع الأيـام الأخيـرة لإحـدى أهم المدن في سورية وأعرقها، ليس «بقاء الأسد» في السلطة وفي «محور الممانعة» الروسي - الإيراني المشترك فقط، إنما أيضا، وربما قبل ذلك، «إحراق البلد» وإبادة شعبه. وإلا، فما طبيعة «الانتصار» الذي يحتفل به الأسد مع أتباعه في دمشق (وبيروت وبغداد وصنعاء!)، كما حليفاه في موسكو وطهران؟ وإلا كذلك، لماذا هذه الهمجية غير المسبوقة في التاريخ، والتي وصفها أحد أبناء حلب بـ«يوم القيامة»، بعد أن شاهد بأم عينيه «شبيحة» الأسد يدخلون أحد أحياء المدينة ويعدمون كل من وجدوه في طريقهم... مسلحاً كان، أو حتى من دون سلاح؟ أكثر من ذلك، فالواقع أن الأسد لم يهدد بإحراق سورية بعد انطلاق الثورة الشعبية على نظامه فحسب، بل إنه قال قبلها وعلى الدوام، كما عمل بكل قواه منذ ذلك الحين، على أن يبقى الحاكم الفرد (آخر مواعيده حتى عام 2021) من دون أي حد من التغيير، أو الإصلاح، في بنية النظام الذي ورثه عن والده قبل ست عشرة سنة، وبعد ثلاثين سنة كاملة من حكم الوالد الفردي والقمعي والاستبدادي، كما بيّنت جولات الحوار ومبادرات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وغيرهما للتوصل الى حل سلمي للحرب على امتداد الفترة السابقة. قبل الثـورة عـلى النـظام، كان الشعـار «الأسـد الى الأبد»، وبعدها بات «الأسد أو نحرق البلد»، ليتحول بعد ذلك الى «الأسد... ونحرق البلد»، بما يعني أن الحريق السوري قائم، سواء بقي الأسد الابن في السلطة أو أزيح عنها. هل تشي هذه الحال بغير إبقاء البلد على شاكلة النظام الذي أقامه الأسد الأب والابن: أحكمكم أو أقتلكم، أو أحكم سورية أو أدمرها؟ وألا يتحدث عشرات بل مئات الآلاف من السوريين المطرودين من وطنهم، والخائفين من الاعتقال أو القتل في حال العودة إليه (آخرهم الكاتب والمفكر والمصلح صادق جلال العظم الذي توفي الأسبوع الماضي في المنفى)، عن غير هذه الحقيقة بأجلى صورها وأقبحها. ليس ذلك وحده، فلم يكتشف العالم الخارجي كما يبدو إلا أخيراً، ما قاله السوريون على الدوام، من أن الإرهاب في سورية هو صنيعة الأسد نفسه، وحجته في الوقت عينه لتبرير ما قام به ضد الشعب السوري منذ مطلع آذار (مارس) 2011. هو الذي أفرج من سجونه ومعتقلاته عن العديد ممن وصفوا لاحقاً بـ «قادة المحاور الإسلاميين»، وحتى أنه زوّدهم بالأسلحة اللازمة ليفعلوا ما فعلوه، وليسيئوا عملياً الى الثورة وقادتها الميدانيين سواء في دمشق وريفها أو حمص أو حلب أو الرقة وإدلب. وهو الذي نسّق مع مقاتلي «داعش» على الأرض، فلم يدخل معهم في معركة واحدة، كما لم يدخلوا هم بدورهم في معركة معه. وكثيرة هي الأنباء والتقارير التي تحدثت عن شرائه النفط من المنابع التي احتلها «داعش» ولا يزال يحتل بعضها حتى الآن. الجديد الآن جاء من تدمر، التي كان الأسد (بخاصة حليفه بوتين المولع بالموسيقى الكلاسيكية، والذي استقدم فرقة من موسكو للعزف على أطلالها) احتفل قبل نحو عام بتحريرها من «داعش»، والتي أعاد التنظيم احتلالها مجدداً في الفترة ذاتها التي كانت تجري فيها مأساة حلب. في التقارير الدولية، ومعلومات البنتاغون بالذات، أن قوات الأسد التي كانت في المدينة لم تتصدّ لمقاتلي «داعش» عندما شنوا هجومهم عليها، بل انسحبت منها بهدوء يدعو الى التساؤل والريبة من ناحية، لكنها إضافة الى ذلك تركت أسلحتها في أماكنها ليأخذها التنظيم من ناحية ثانية. ماذا يعني ذلك غير المزيد من الشيء ذاته: إبقاء الحرب على حالها، ومواصلة إحراق سورية وقتل شعبها... أو حتى، كما أصبح بادياً للعيان، تهجير الغالبية منها وإحداث تغيير ديموغرافي يلائم سلطة الأسد على ما يسميه «سورية المفيدة»، ومعها مخططات حليفه الإيراني لها ولغيرها من دول المنطقة؟ ما يبقى أن تدمير حلب، بهذا الأسلوب والى هذا المستوى من الإبادة الجماعية، هو خطوة على الطريق الذي رسمه الأسد وخامنئي منذ البداية. وقد يكون الأمر مفهوماً، في ظل ما بات مؤكداً عن استراتيجيتهما (عفواً، استراتيجية خامنئي وحده)، لكن ما ليس مفهوماً البتة هو موقف حليفهما الثالث، فلاديمير بوتين، الذي يشارك في إيقاد النار، وطبعاً مصلحته الآنية، أو حتى الاستراتيجية، في الحريق الذي يجتاح سورية من أقصاها الى أقصاها. * كاتب وصحافي لبناني
مشاركة :