ولادة أسطورة

  • 12/17/2016
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

الفيلم الأميركي بيليه ولادة أسطورة الذي خرج للنور عام 2014، من تأليف وإخراج الأخوين جيف ومايكل زيمباليست Jeff Zimbalist Michael وZimbalist، من بطولة الممثل كيفين دو باولا Kevin de Paula في دور لاعب الكرة البرازيلي االطفل الحافي لذي حول مهارة الشارع لقيادة فريق بلاده للحصول على كأس العالم لكرة القدم عام 1958. وبصرف النظر عن قيمة الفيلم الفنية يستوقفنا النداء الروحي في حبكته الواقعية. إذ يُفْتَتَح الفيلم بالانتحارات بين مشجعي الكرة في البرازيل عقب الهزيمة في كأس العالم 1950، تُفاجأ بحدة ردود الفعل تلك، الدموع الانهيارات العصبية والدمار الذاتي في بلد فقد بوصلته بخسارته لكأس العالم عام 1950، بلد حَوَّل قواه السحرية في فترة من تاريخه لتصب في لعبة، كرة القدم والتي أوجدته على خارطة العالم، لذا فحين فقدت البرازيل كأسها فقدت إيمانها بسحر روحها المسماة بـزنجا zinga، وتجيء هذه الهزيمة كفاتحة لسنوات من انهيار تام في الروح المعنوية، ولمحاولة هي أشبه بمحاولة لخلع الشعب لجلده، خلعه لهويته وإيمانه بدونية معتقداته. وينتقل الفيلم لتناول العلاقة الخاصة بين بيليه وأبيه، علاقة تُلَخِّص ذلك الفقد للقيمة، والذي يتمثل في الأب الذي فقد قيمته في اللحظة التي ساوره فيها الشك بقيمة تلك الروح المميزة للبرازيلي والمرموز لها بـزنجا zinga، فالرجل الذي بدأ حياته كلاعب لامع لكرة القدم قد تحول في لحظة لعاجز، لحظة خاطفة في الهواء فقد فيها إيمانه فهوى معطباً ركبته، وتحول من لاعب كرة مرموق لعامل نظافة في حمامات مستشفى، عمل مضنٍ يغرق بالرجل في مخلفات البشر، في دركات من عتم بلا آخر، ويجيء الابن حاملاً لتلك الروح زنجا، وتتضافر الجهود حوله لثنيه عن السماح لتلك الزنجا بالانبعاث من جديد، بينما وفي نفس الوقت يظهر في حياة بيليه رسل هم أشبه بملائكة يصلونه بتلك الروح، ابتداءً بالأب الذي يقف معه في لحظات اليأس ليقوده لذاته، والمدرب الذي يُسفر له عن الزنجا، تلك الروح التي جاء بها الأفارقة للبرازيل، وكانت وسيلتهم لمقاومة الظلم ولم يلبث أن تم توظيفها في ملاعب كرة القدم حين استقر المجتمع، فصارت كرة القدم هي التجلي المثل لتلك الروح الحرة الطليقة والتي تلعب خارج القوانين والقيود، روح محلقة في سماوات بدائية بلاحد. نتوقف بعبارة قالها الأب كدليل، لا تقسو على نفسك، استمتع، ألعب ببهجة joy، عندها يأتيك كل شيء. عبارة تُلَخِّص البهجة المجنحة التي للروح، والتي حين تتجلى تخضع لها الحياة بكل عناصرها وفخامتها، بهجة في أبسط أداء، يتحول معها البسيط والعادي لمعجزة ساحرة. سيرة بيليه هي سيرة التحليق والسقوط، في سلسلة مناورات بين الروح ومطفئيها، يلجأ للزنجا ويتقدم حتى يتم ترشيحه حين كان في السابعة عشرة من العمر كأصغر لاعب ضمن الفريق المنتخب لتمثيل البرازيل في مباريات كأس العالم 1958، وهنا يتضافر الخوف من الهزيمة ليقود للقمع الحاسم للزنجا فيه، ويجلب القمع لحظة هي أشبه بصدى للحظة التي فقد فيها أبوه والبرازيل لمعة الهوية، لحظة العطب ذاتها تلحق الابن كما لحقت الأب، يصاب بيليه في ركبته في لحظة فقده للإيمان وقبل أيام من خوض الفريق لمباريات كأس العالم الحاسمة 1958. ومرة أخرى يأتي صوت الأب ليقود بيليه للروح زنجا، وبمواجهة لحظة التحدي الحقيقية تنبثق الشرارة، النتيجة التي توصل لها الفريق مع مدربه أنه لامناصة لهم أن يكونوا أنفسهم، بكل عيوبهم وعاهاتهم وأسلوبهم الفج من الشارع، ذلك الاختلاف وعاهاتهم التي يسخر منها الخصوم هي ذاتها مصدر قوتهم لا مصدر دمارهم، اختلافهم هو التركيبة السحرية التي منحتهم النجومية عالمياً، أدركوا كفريق أنه لامناص من الرجعة لتلك الخصوصية بلا خجل ولا تراجع، هذا نحن، نحن مختلفون عن بقية لاعبي أوروبا الكبار، والذين يلعبون وفقاً لقوانين وقواعد صارمة، نحن اللاقانون، نحن الخام والوحشي، لكن ذلك سر نجاحنا، لا التمثل بغيرنا إنما رجعتنا للذات. الفيلم في رؤياه هو دعوة للخصوصية الروحية، دعوة للرجعة للجذور، لما يميز كل شعب ويمنحه النهكة التي لا تضاهيها نكهة وتقود لإبداع الذي لا يضاهيه إبداع، وهو ما يتحقق في اختيار واضع الموسيقى التصويرية للفيلم المغني والعازف ومؤلف الموسيقى وقصائد الأغاني الهندي الله راخا رحمن A. R. Rahman من مواليد عام 1967، هذا الموسيقى الحاصل على ألقاب عديدة مثل لقب عاصفة الموسيقى ولقب موزارت مداراس والذي اختارته مجلة التايم البريطانية عام 2009 بصفته أحد أهم الشخصيات الفاعلة في العالم، ورشحته مجلة Songlines عام 2011 بصفته أحد أيقونات موسيقى الغد العالمية، والذي حصد على جوائز عالمية عديدة منها جوائز الجولدن جلوب والأكاديمي آوورد والجرامي لمرات متعددة، كل ذلك الحصاد يرجع لانطلاقه من موسيقى الجذور، من الموسيقى الشرقية الكلاسيكية والهندوسية وأسلوب القوالي Qawwali الذي اسسه نصرت فاتح علي خان والمزواجة بين تلك العراقة وبين الموسيقى الإليكترونية والأوركيسترالية الغربية. انطلاقة رحمن جاءت من اختياراته الفريدة منذ حداثته، فلقد بدأ باختيار ديانته وتحول للإسلام حين كان في الثالثة والعشرين من العمر، بل واختار اسمه فصار يسمى بـ الله راخا رحمن، ولقد حمل مبكراً عبء عائلته الكبيرة بعد وفاة والده والتي كان يعولها من تأجير آلات أبيه الموسيقية، ولقد نجحت خصوصية موسيقى رحمن التي تحمل تناوله الروحي للعالم ككل لا يتجزأ في حمله للعالمية، فاختير لتأليف موسيقى تصويرية سواء للأفلام الوثائقية أو تلك التجارية التي حققت مداخيل قياسية مثل فيلم اليزابث وفيلم الأب الروحي أو لورد أوف ذا رينق أو فيلم سلمدوق مليونير أو فيلم رحلة المائة قدم من إخراج أوبرا وينفري، واختير للمساهمة في الموسيقى التصويرية لحفل افتتاح الألعاب الأولمبية بلندن عام 2012، وظهر على المسرح مع مشاهير الموسيقى مثل ميك جاجر ومايكل جاكسون، اي أن موسيقى رحمن قد مست الجمهور من كل الأعمار والجنسيات، نجده متنقلاً بين الموسيقى الإليكترونية والموسيقى الصوفية بسلاسة من يشرب من ينابيع بلاحدود، فموسيقى هذا العبقري تنبع من الجوهري، من صفاء روحي ينعكس أيضاً في دوره الإنساني عالمياً، حيث يضلع في أعمال خيرية لإنقاذ أطفال العالم، ويساهم في حملات جمع تبرعات للمناطق المنكوبة بالكوارث الطبيعية كما في تسونامي المحيط الهندي عام 2004، وزلزال هايتي عام 2010. في سيرة بيليه كما في سيرة رحمن هناك مُوَصِّل يصله بالروح، فالنسبة لبيليه كان الأب والمدرب، وبالنسبة لرحمن كانت والدته، فمنها انتقلت إليه التأثيرات الصوفية التي صاغت موسيقاه، صوفية صبَّتْ فيه عبر والدته التي تركت بصمتها العميقة على حياته بعد وفاة والده المبكرة، ولقد كرس رحمن لتلك النزعة الروحية -المرموز لها بالأم- نجاحه في احتفال جائزة الأكاديمي آوورد رقم 81، حين قال بمناسبه حصوله على الجائزة: حتى لو فقدت كل شيء تبقى أمي هنا. مفتتحاً خطابه ذاك باقتباس من فاتحة القرآن الكريم، الحمد لله رب العالمين . هذا الإعلان للخصوصية والذي لا يخجل أو يتوارى أمام سطوة مادية العالم الحديث، خصوصية تدفع بأصالتها لا محالة للعالمية. بوستر الفيلم

مشاركة :