جسدت معاني الكلمة السامية التي ألقاها العاهل المفدى بمناسبة الأعياد الوطنية، إحياء لذكرى قيام الدولة البحرينية الحديثة في عهد المؤسس أحمد الفاتح دولة عربية مسلمة عام 1783 ميلادية، والذكرى الـ45 لانضمامها إلى الأمم المتحدة دولة كاملة العضوية، والذكرى الـ17 لتسلم حضرة صاحب الجلالة الملك المفدى مقاليد الحكم، جسدت ثلاثة معانٍ جوهرية تمثل أساسا قويا لدراسة هذا النموذج البحريني الفريد في النمو والارتقاء، ونبراسا لكل من يحاول الاقتداء بالتجربة الوطنية في التعايش والتطور، وهي المعاني التي يمكن أن يتلمسها كل من يعيش فوق أرض هذا الوطن الكريم في كل موقف يعيشه، بل في كل لحظة من لحظات حياته. المعنى الأول يتعلق بما يمكن اعتباره البشارة التي عبَّر عنها العاهل المفدى في ثنايا كلمته بشأن الحرص على مواصلة مسيرة الإصلاح الشامل التي خطت فيها المملكة خطوات واسعة منذ أكثر من عقد ونيف مهما كانت العوائق والعقبات، وأن هذه المسيرة ستمضي قدما -بعون الله عز وجل- مع التفاف الشعب حولها وتكاتف الجميع وراءها بغرض تحقيق آمال هذا الشعب في الرفاهة وتطلعات قيادته في الأمن والاستقرار والتنمية؛ إذ جدد جلالته «الالتزام بثوابت الإصلاح والتطوير المستمر لدولتنا بقيمها الداعية إلى العيش المشترك، وحماية الحقوق والحريات واحترام القانون، كأساس لثبات الدولة واستقرارها». ولا شك أن هذا الحرص السامي على تجديد عهد الالتزام بالإصلاح الدائم يؤكد بما لا يدع مجالا لأي شك أن القيادة الرشيدة في طريقها المرسوم لبلوغ أسمى وأرفع المواقع المنشودة للمملكة ولشعبها الطيب، وأنها ستواصل الجهد بالجهد من أجل تحقيق النجاحات الواعدة في عديد من القطاعات والمجالات، سواء في الداخل أو في الخارج، وهي نجاحات تبشر مستقبلا بما هو أفضل وأروع، وذلك انطلاقا من وعد جلالته الثابت الذي آمن به وعمل لأجله منذ أن تولى مقاليد الحكم عام 1999، وهو أن غد هذا الوطن وقادمه سيكون بالتأكيد أجمل وأرقى. ولعل المتابع لما شهدته المملكة من منجزات عادت بالخير على كيان هذه البلاد ومن يقطنون فوق أرضها، وخاصة خلال السنوات الأخيرة، يتأكد من هذا المعنى الجليل، وهو أن مسيرة البحرين نحو الرفعة والتقدم لن تتوقف أبدا بإذن الله تعالى، وأنها لن تنظر إلى الوراء مطلقا، وستستمر أبدا ما دام هناك قلب بحريني ينبض. لقد أتت مسيرة الإصلاح البحريني الشامل أكلها بالفعل، وعادت بظلها الوفير على الكافة، وتكللت بالنجاح على كل المستويات، وجعلت المملكة واحدة من الدول القليلة التي استطاعت على الرغم من شح مواردها أن تؤمن مستوى لا بأس به من الحياة الكريمة المطمئنة، ليس فقط لأبنائها ومواطنيها وإنما لكل المقيمين فوق أرضها والوافدين إليها، أملا في حياة أفضل وفرصة أكبر للنهوض وتوسيع هامش خياراتهم في ظل بيئة آمنة ومناخ مستقر. المعنى الثاني يتعلق بكون هذه المسيرة الإصلاحية المباركة لم تكن لتتحقق أو تؤتي ثمارها المرجوة من دون مشاركة محورية من جانب كل قوى وأطراف المجتمع البحريني، سواء بنخبه أو أفراده أو مؤسساته. وهذه المشاركة التي تمت من دون إقصاء أو إبعاد لأي فرد أو قوى، سارع إليها الجميع -كل في موقعه- من أجل الانخراط فيها، من دون كلل أو ملل، وبذلوا من الجهد والدماء كثيرا، ما ضمن لبلادهم ولأنفسهم موقعا محوريا في الإقليم والعالم، يبارون به أكثر الأمم رخاءً وازدهارا، وهو ما كفل لهذه المسيرة النجاح تلو الآخر، ليس فقط لجهة الاستمرارية من دون أخطاء أو انقطاعات أو توقفات وإنما لجهة التمتع والاستفادة أيضا بمكتسباتها ومنجزاتها. وقد أشاد بذلك العاهل المفدى حينما أثنى في كلمته السامية على جهد «الفعاليات المدنية والشعبية كافة، التي تتولى مسؤولية البناء والتجديد بروح عصرية تنطلق من خصوصيتنا الوطنية وثوابتنا الأصيلة»، وهي رسالة بليغة تحيي وتشيد بدور المجتمع البحريني ومكوناته المختلفة في استكمال مقومات بناء هذا الصرح العظيم الذي أرسى أركانه الأجداد، وواصل خير خلف لخير سلف البناء عليه واستكمال مقوماته، وبات يرفل في نعيمه الناس الآن. ولم تكتف إشادة العاهل المفدى بدور فواعل المجتمع وقواه الرئيسية فحسب، وإنما وجه جلالته التحية لأبناء هذا الوطن الكريم في مواقع عديدة أخرى من كلمته السامية، وخاصة أولئك الذين بذلوا أرواحهم فداء لأرض هذا الوطن وأبنائه الكرام ومبادئه الثابتة الراسخة التي بات يشهد لها المجتمع الدولي، وذلك عندما دعا المولى عز وجل بمناسبة الذكرى العطرة ليوم الشهيد، «بالرحمة والمغفرة لرجال البحرين الأوفياء الذين» «قضوا نَحْبَهم، وصدقوا عهدهم»، «فداءً لوطنهم وتلبيةً لواجبهم منذ فجر تأسيس الدولة البحرينية المباركة». المعنى الثالث الذي يمكن استخلاصه من ثنايا كلمة العاهل المفدى في الاحتفال بالأعياد الوطنية يتعلق بالمسؤوليات الجسام التي باتت تقع على البحرين في الآونة الأخيرة، نظرًا إلى المكانة التي وصلت إليها على الساحتين الإقليمية والدولية بحكم علاقاتها الممتدة والمتشعبة، وتتطلب من جميع قوى المجتمع استيعابها وفهم التبعات الناجمة عنها، ومن ثم التعاطي معها باعتبارها فرصة عظيمة يمكن الانطلاق منها لبناء مستقبل أفضل للمملكة ولشعبها. وواقع الأمر أن هذه المسؤوليات التي تقع على البحرين الآن كدولة لها ثقلها ومكانتها، تفرض شبكة من التفاعلات والسياسات الواجب الاندماج فيها وأداؤها بالكفاءة والفعالية المطلوبة، مثلما طالب بذلك العاهل المفدى الذي تطلع بشكل صريح ومباشر إلى «استمرار مؤسساتنا المدنية في أداء دورها الوطني لخدمة الصالح العام، وقيادة الرأي الهادف، ورفد الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بالرؤى والتطلعات التي تثري وتقوي مسيرة البناء والتطوير». ولا يخفى هنا أن شبكة علاقات البحرين «الإستراتيجية والمتنوعة»، مثلما وصفها العاهل المفدى، فضلا عن «مصالحها الاقتصادية المتبادلة»، تمثل فرصا كبيرة ينبغي الاستفادة منها، ومكتسبات يجب حمايتها والحفاظ عليها، وهي في العموم منجزات كبيرة لم تتحقق إلا بجهد جهيد ومضن بذله أبناء هذا الوطن ورجالاته في المواقع كافة وعلى كل المستويات، الأمر الذي يتعين معه الجاهزية الكاملة والاستعداد الكافي وبذل مزيد من الجهد لأي طارئ أو تحد في المستقبل. لذلك كانت الدعوة السامية إلى «الالتزام بمسؤوليات علاقات البحرين القوية مع المجتمع الدولي»، التي وصفها العاهل المفدى باعتبارها «عنوانا»، لن تتأخر المملكة وأبناؤها الكرام عن الوفاء به «مهما بلغت التضحيات».
مشاركة :