في كل مرة كانت الحافلة التي تقل السكان الخارجين من آخر جيب تحت سيطرة الفصائل المعارضة في مدينة حلب، تتوقف عند حاجز تابع لقوات النظام السوري أو حلفائه، كان الركاب يسارعون إلى التزام الصمت لترتسم ملامح الخوف على وجوههم. وطوال نحو ساعتين استغرقتهما رحلة الخوف إلى خارج حلب، لم يفارق القلق الركاب، خصوصا لدى توقف الحافلات عند الحواجز العسكرية، خشية من توقيفهم أو عرقلة وصولهم إلى وجهتهم. وتحدث مراسل لـ«فرانس برس»، وسكان كانوا على متن الحافلات التي خرجت الإثنين من شرق حلب متوجهة إلى الريف الغربي، عن لحظات التوتر الشديد التي عاشوها. وعمد الكثير من الركاب إلى التقاط الصور لآخر أحياء مدينتهم عبر هواتفهم الخلوية. وقال أحدهم متأثرا، «ربما لن نراها في حياتنا مرة ثانية»، فيما لم يتمالك رجل مسن دموعه من شدة تأثره، معربا عن الأمل بأن يتمكن من العودة ذات يوم. وعلى متن الحافلات، كان العديد من الركاب الذين التقى بعضهم برفاق لهم بعد فراق طويل، يجدون صعوبة في التعرف على بعضهم البعض جراء فقدان وزنهم وتغير ملامحهم بفعل الحصار المطبق على الأحياء الشرقية التي كانت تحت سيطرة الفصائل منذ العام 2012. وقال مراسل لـ«فرانس برس»، إن آثار الدخان الأسود الناجم عن حرق الثياب بهدف التدفئة خلال انتظار وصول الحافلات، كانت لا تزال واضحة على وجوه العديد منهم. وتطلبت الرحلة المرور على ثلاثة حواجز، الأول للجيش السوري والثاني لحليفه الروسي، أما الثالث فهو تابع لمقاتلين عراقيين وإيرانيين، يقاتلون إلى جانب قوات النظام. وقبل لحظات من توقف الحافلة عند الحاجز الأخير، صرخ أحد الركاب، وهو في الأربعينات من العمر، «إنه الحاجز الأخطر». وتحدث عما تعرضت له حافلة كان على متنها الجمعة بعد خروجها من آخر جيب تحت سيطرة المعارضة في حلب. وقال، «كنت على متن الباص حين وصلنا إلى هذا الحاجز قبل أيام. صعد المسلحون وأجبرونا على النزول وتعرضوا لنا بالضرب»، مضيفا، «أخاف أن يتكرر ذلك مرة ثانية». ومنعت الحافلة يومها من إكمال طريقها وأعيد ركابها إلى المكان الذي انطلقوا منه في شرقي المدينة. لكن الحافلة اجتازت هذه المرة بسرعة هذا الحاجز بعدما كانت قد توقفت نصف ساعة عند الحاجز الروسي. رعب الحواجز .. وشاهد الركاب عند هذه النقطة الأمنية جنودا روسا يحملون أسلحة متطورة ويرتدون سترات واقية للرصاص، عملوا على تفتيش الحقائب الموضوعة في صندوق الحافلة بروية والتدقيق في محتوياتها. وتقدم مترجم إلى باب الحافلة برفقة أحد الجنود ليسأل الركاب، «هل يرغب أحدكم بالتوجه إلى الحمدانية والمنطقة المجاورة ؟»، التي تسيطر عليها قوات النظام على أطراف مدينة حلب. لكن أحدا لم يرد بالإيجاب وتابعت الحافلة طريقها. وإذا كانت هذه الحافلة قد بلغت وجهتها خلال أقل من ساعتين، فإن ركابا آخرين احتجزوا لأكثر من 16 ساعة على متن حافلات مكتظة. ويروي أحمد رسلان، لـ«فرانس برس»، معاناته. ويقول، «صعدنا إلى الباصات قرابة الثالثة عصرا (الأحد)، وبقينا فيها حتى الثانية عشرة ظهر الإثنين». واجتازت الحافلة التي استقلها الحاجزين التابعين لقوات النظام والروس، لكنها توقفت لساعات طويلة عند الحاجز المشترك بين المقاتلين الإيرانيين والعراقيين. يوضح أحمد، «المعاملة كانت سيئة جدا، لم يعطنا أحد كوبا من المياه»، لافتا إلى حالة مأساوية للنساء والأطفال الذين تقيأوا جراء الانتظار الطويل والزحمة داخل الحافلة. ويضيف، «أصبحت رائحة الباص كريهة جدا من دون أن يفتحوا الباب أو يسمحوا لنا بالخروج». ونتيجة منعهم من مغادرة الحافلات، لجأ البعض إلى قضاء حاجاتهم في أكياس بلاستيكية قبل رميها من النوافذ، وفق ما شاهد أحد مصوري «فرانس برس». وروى كيف أن عناصر الحاجز لم يسمحوا للركاب بإطفاء الأنوار داخل الحافلات حتى يتمكن الأطفال من النوم. وبعد ساعات طويلة من الانتظار جاء الخبر المنتظر: سيسمح للحافلات بإكمال طريقها. وتم اعتراض هذه الحافلات بعد اعتداء مسلحين مساء الأحد على عشرين حافلة كانت تستعد لدخول بلدتي الفوعة وكفريا المحاصرتين من الفصائل المقاتلة في إدلب (شمال غرب)، واللتين يسري اتفاق الإجلاء عليهما أيضا. وحين وصلت الحافلات إلى حاجز رابع غرب حلب، تبادل الركاب النظرات متسائلين عن هوية المقاتلين باللباس العسكري، ليتبين لاحقا أنهم تابعون للفصائل المعارضة فتنفسوا الصعداء. وعلى بعد أمتار عن هذا الحاجز الأمني، كان المئات من المسعفين والمنظمات غير الحكومية ينتظرون وصول الوافدين ويحملون لافتات عليها أسماء أقربائهم. وتبادل الأقرباء العناق بعد فراق امتد لسنوات، قبل أن يمازحوا بعضهم البعض وهم يتناولون الموز، الفاكهة التي كادوا ينسون طعمها جراء الحصار.
مشاركة :